د. محمد سيد أحمد يكتب: اغتيال العقل العربي !!


لم تكن وفاة العالم المصري سعيد سيد بدير عام 1989 حدثًا عابرًا في سجل الحوادث الغامضة، بل كانت صفعة أخرى على وجه أمة اعتادت أن ترى عقولها تتساقط في الظل، دون أن تفتح تحقيقًا جادًا أو تبني حدًا أدنى من منظومة حماية لأبنائها، ملابسات الوفاة سجلت رسميًا كـ "انتحار"، لكن علم الاجتماع السياسي لا يتعامل مع الأوراق الرسمية بقدر ما يتعامل مع النمط الاجتماعي والتاريخي الذي يتكرر أمامنا بإصرار غريب منذ ما يزيد على نصف قرن: كل عالم عربي يقترب من منطقة العلم العسكري أو التكنولوجيات الاستراتيجية، ينتهي في ظروف لا يستطيع حتى القانون تفسيرها بصورة تطمئن المجتمع.
كان سعيد سيد بدير عالمًا في الذكاء الاصطناعي العسكري، والتحكم في الطائرات بدون طيار، والاتصالات الفضائية، لم يكن باحثًا أكاديميًا عاديًا، بل كان جزءًا من نواة يمكن أن تمنح مصر – لو اكتمل مشروعها – قدرة مختلفة على مواجهة تحديات القرن الجديد، كان يعمل في مجالات هي اليوم مفاتيح الهيمنة الدولية: الطائرات المسيرة، التحكم الذاتي، أمن الاتصالات، وربما ما هو أبعد من ذلك، ثم فجأة يسقط الرجل من شرفة شقة في الإسكندرية، وينتهي الملف الرسمي سريعًا، وتطوى الصفحة، وتستمر الحياة كما لو أنه لم يكن هناك مشروع، ولم يكن هناك عالم، ولم يكن هناك أمن قومي مهدد.
من زاوية علم الاجتماع السياسي، لا يبدأ السؤال من "كيف مات؟"، بل من لماذا يتكرر هذا المشهد تحديدًا مع كل عقل عربي يقترب من مناطق القوة العلمية؟، هل هي مجرد مصادفات مؤلمة؟ أم أننا أمام بنية سياسية عاجزة، ونظام إقليمي معادٍ، وصراع إرادات أكبر بكثير من قدرة الدولة القطرية العربية على فهمه أو مجابهته؟، الوعي العربي – بغض النظر عن التقرير الرسمي – يقرأ حادثة سعيد سيد بدير في ضوء ذاكرة طويلة من استهداف العقول العربية، من يحيى المشد في باريس سنة 1980، إلى العلماء العراقيين بعد 2003، إلى سلسلة من الاغتيالات التي طالت علماء في إيران خلال العقد الأخير، نحن أمام نمط اجتماعي-سياسي وليس حادثة فردية، في هذا النمط، يتقاطع موت العلماء مع لحظات صعود مشاريع استراتيجية عربية، وكأن ثمة قوة إقليمية ودولية لا تريد للعقل العربي أن يخطو خطوة واحدة خارج إطار الاستهلاك.
من يدرس تاريخ الصراع العربي–الصهيوني يدرك بسهولة لماذا تتجه أصابع الاتهام – شعبيًا – نحو إسرائيل في مثل هذه الحالات، لسنا أمام شعب يتوهم، بل أمام ذاكرة سياسية تعرف جيدًا أن التفوق النوعي العسكري الصهيوني كان دائمًا مبنيًا على تحييد أي محاولة عربية لامتلاك العلم المتقدم، العدو الصهيوني لا يخفي ذلك في استراتيجيته المعلنة، لكنها ليست القضية هنا، القضية الأخطر هي الدولة القطرية العربية التي لم تستطع يومًا أن توفر حماية حقيقية لعلمائها، ولا أن تبني بيئة أمنية تتعامل مع العالم المتخصص في الذكاء الاصطناعي كما تتعامل مع ما يعادل رتبة "لواء" في معركة مفتوحة.
سعيد سيد بدير لم يكن يحتاج إلى جدار مراقبة، بل إلى مشروع دولة يعرف قيمته، مشروع شبيه بما صنعه جمال عبد الناصر حين كان يرسل العلماء إلى الخارج ويستقبلهم بمختبرات ومؤسسات وملفات أمن قومي وليس بـ "مكاتب حكومية"، المشروع القومي العربي كان يفهم أن العلم ليس رفاهية، وأن حماية العلماء ليست مسألة إدارية، بل ركن من أركان الاستقلال الوطني، ولهذا كانت حماية العقول جزءًا من البنية الأمنية للدولة، لا إجراءً ثانويًا، لكن بعد تفكيك المشروع القومي، تحولت الدولة العربية إلى كيان بيروقراطي بلا رؤية، لا يملك القدرة على حماية عالم ولا حتى الإرادة لفهم أهمية علمه، وهكذا مات سعيد سيد بدير، سواء كان اغتيالًا أو إهمالًا أو تواطؤًا بالصمت، فإن النتيجة واحدة: أمة عربية خسرت عقلًا كان يمكن أن يكون أحد أسلحتها المستقبلية.
الخطر الحقيقي ليس في "القاتل المحتمل"، بل في النسيان المحتمل، في أن نمر على رحيل العلماء كما نمر على أخبار الطقس، في أن نقبل بأن يكون موت العقول جزءًا من دورة الحياة العربية، هذه جريمة لا تقل قسوة عن أي عملية اغتيال، إن حماية العلماء ليست مسؤولية جهاز الأمن، بل مسؤولية مشروع، يفهم أن النهضة ليست خطابات بل معادلات، ليست أناشيد بل مختبرات، ليست شعارات بل حماية حقيقية لمن يحملون مستقبل الأمة في عقولهم.
سعيد سيد بدير لم يمت وحده، بل مات معه جزء من قدرتنا على أن نكون أمة لها مكان في عالم تحكمه التكنولوجيا، وإذا لم تتعلم الدول العربية من هذا الدرس، فسنستمر في دفن علمائنا، ودفن مستقبلنا معهم، اللهم بلغت اللهم فاشهد.


.jpg)





















