الدكتور أحمد عبود يكتب: لا تهدموا المأوى الأخير... ففي تلك الجدران بقايا وطن


في مصر، تظل قضية الإيجار القديم من أكثر القضايا المثيرة للجدل التي تؤثر على حياة ملايين المواطنين بشكل يومي. بدأت هذه الأزمة منذ حوالي 70 عامًا مع صدور القانون رقم 121 لسنة 1947، الذي كان هدفه الأول هو حماية المستأجرين من جشع بعض الملاك في وقت كانت فيه مصر تشهد حالة من الأزمات الاقتصادية عقب الحرب العالمية الثانية. كان الناس، خاصة الطبقات الفقيرة والعاملين في وظائف حكومية، بحاجة إلى مأوى آمن يمنحهم الاستقرار في ظل هذه الظروف الصعبة. وكانت الحكومة ترى أن تحديد قيمة الإيجارات هو خطوة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية، حيث كان المواطن البسيط في حاجة إلى مسكن بأسعار معقولة بعيدًا عن استغلال الملاك، فتم تحديد القيمة الإيجارية بشكل ثابت لمساعدة هؤلاء المواطنين، ولم يكن من المتوقع أن تستمر هذه القوانين إلى ما بعد فترات معينة. ورغم مرور عقود من الزمان، ورغم التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها مصر، فإن العلاقة بين المالك والمستأجر ظلت محكومة بتلك القوانين القديمة التي جعلت الكثيرين في موقف غير عادل. فالمستأجر الذي كان في البداية يُعتبر ضحية للأوضاع الاقتصادية، أصبح مع مرور الوقت جزءًا من أزمة أخرى، حيث تزايدت المطالب من الملاك بضرورة تعديل القوانين لتتناسب مع الواقع الاقتصادي الجديد.
اليوم، ومع ارتفاع الأسعار والتضخم الكبير في السوق العقاري، أصبحت أزمة الإيجار القديم أكثر تعقيدًا. فالمستأجر الذي عاش في هذه الشقق لعقود من الزمن لا يمتلك القدرة على الانتقال إلى شقق جديدة في ظل الارتفاع الكبير في الإيجارات، مما جعله يتمسك بمأواه القديم رغم تدني قيمته السوقية. لكن لا يمكن إنكار أن الملاك أيضًا عانوا من تدني العوائد على ممتلكاتهم بسبب تثبيت الإيجار على مدار عقود طويلة، ما جعلهم غير قادرين على تجديد أو صيانة العقارات بشكل مناسب. هؤلاء الملاك يعيشون تحت وطأة قانون يحرمهم من حقهم في استثمار عقاراتهم أو تطويرها بالشكل الذي يتماشى مع سوق العقارات المتطور. ومع هذا، فإن الحلول المطروحة اليوم - مثل فرض زيادات كبيرة وفورية على الإيجار القديم أو تحرير العلاقة بين المالك والمستأجر بشكل مفاجئ - قد يكون لها تأثير مدمر على المستأجرين الذين ليس لديهم القدرة على تحمّل هذه الزيادات.
الواقع أن الأزمة لم تعد مجرد صراع بين طرفين، بل أصبحت قضية اجتماعية وإنسانية بامتياز، فهي تتعلق بمستقبل أعداد كبيرة من الأسر المصرية التي تعتمد بشكل كامل على هذه المساكن. فالمستأجر، في الغالب، لا يملك خيارًا آخر، ولا يستطيع ببساطة الانتقال إلى مكان آخر في ظل هذه الظروف. هذه الأسر قد تكون لا تمتلك حتى القدرة على دفع زيادات بسيطة في الإيجار بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد. في الوقت ذاته، لا يمكن تجاهل أن الملاك لديهم حقوق أيضًا. فالكثير منهم قد عانى من تدهور قيمة الإيجارات وعدم قدرتهم على صيانة العقارات، وبالتالي فإنهم في حاجة إلى تعويض مادي يتماشى مع التكاليف الفعلية.
المسألة الآن هي إيجاد حل يوازن بين حقوق الطرفين: المالك والمستأجر. الحلول المطروحة لا يجب أن تكون قاسية أو مفاجئة، بل يجب أن تتضمن خطوات تدريجية تراعي الوضع الاجتماعي والاقتصادي لكلا الطرفين. على سبيل المثال، يمكن فرض زيادات تدريجية للإيجار على مدى عدة سنوات بدلاً من زيادات مفاجئة قد تُشرد المستأجرين. كما يمكن إنشاء برامج دعم للمستأجرين الأشد احتياجًا، مثل كبار السن أو أصحاب المعاشات، بحيث لا يتم تحميلهم عبئًا فوق طاقاتهم. من جهة أخرى، يمكن التفكير في تحفيز الملاك على تجديد العقارات وتحسينها من خلال قروض ميسرة أو دعم حكومي، ما يساعدهم على تلبية احتياجات السوق العقاري دون التأثير سلبًا على المستأجرين.
ولكن، مهما كانت الحلول المطروحة، فإن القوانين القديمة التي ظلت سارية لفترات طويلة يجب أن تُعدل بما يتناسب مع الظروف الحالية. فالإيجار القديم لم يعد حلًا للمشاكل السكنية، بل أصبح أحد أوجه الأزمة الكبرى التي تواجهها الحكومة والمجتمع المصري في الوقت الراهن. إذا كانت الدولة تأمل في تحقيق العدالة بين الملاك والمستأجرين، فلا بد من إحداث تغيير حقيقي في تلك التشريعات مع مراعاة التأثيرات الاجتماعية والإنسانية على الأسر المتضررة.
إن منازل الإيجار القديم ليست مجرد جدران وأسقف، بل هي بيوت مليئة بالذكريات والتاريخ الشخصي لملايين الأسر التي نشأت في هذه المنازل. هي أماكن يشعر فيها الأفراد بالأمان والراحة، لذلك فإن فقدانها أو تدميرها بشكل مفاجئ لن يكون مجرد مسألة قانونية، بل سيكون لها تأثير اجتماعي كبير على المجتمع ككل. لن يُطرد الناس من بيوتهم فقط، بل سيُحرمون من جزء كبير من حياتهم وذكرياتهم.
لا تهدموا المأوى الأخير... ففي تلك الجدران بقايا وطن، وفي تلك الغرف ذكريات لا يمكن استعادتها، وآمال لا يمكن إطفاؤها.
المعادلة هي في تحقيق العدالة بين حقوق جميع الأطراف: الملاك الذين يعانون من تدني العوائد، والمستأجرين الذين يعيشون في بيوتهم ويشعرون بأنها آخر مكان لهم. فإن الحلول الوسط هي السبيل الوحيد للحفاظ على استقرار المجتمع، وحماية الأفراد من تداعيات اقتصادية واجتماعية قد تكون غير قابلة للإصلاح على المدى الطويل.