الدكتورة إسراء سمير تكتب: ”التعلّق” خيط رفيع بين الحب والاعتماد


يُعدّ التعلّق من أكثر المشاعر الإنسانية عمقًا وتعقيدًا، فهو في جوهره حاجة فطرية يبحث بها الإنسان عن الأمان والانتماء، لكنه في الوقت نفسه قد يتحوّل إلى عبء نفسي إذا تجاوز حدّه الطبيعي. فالتعلّق هو تلك الرغبة الدافئة في القرب من شخص يمنحنا الطمأنينة، أو فكرة تمنحنا المعنى، أو مكان يربطنا بالذكريات، لكنه حين يصبح مبالغًا فيه، يتحوّل إلى قيدٍ يحدّ من حرية الفرد ويشوّه العلاقات الإنسانية.
التعلّق في صورته الصحية هو علاقة متوازنة تقوم على الثقة والاحترام المتبادل، حيث يشعر الإنسان بالراحة في وجود من يحب دون خوفٍ من الفقد أو الابتعاد. إنه ارتباط يقوم على الاختيار لا على الحاجة، وعلى المشاركة لا على التبعية. غير أن الصورة تختلف تمامًا عندما يتحوّل التعلّق إلى نوعٍ من الإدمان العاطفي، حيث يصبح الآخر مركز العالم، ويغدو غيابه مصدر قلقٍ وهلعٍ دائمين، فتفقد العلاقة توازنها وتتحوّل إلى معركة خفية بين الخوف والرغبة في البقاء.
وللتعلّق وجه إيجابي لا يمكن إنكاره، فهو يمنح الإنسان شعورًا بالأمان والدعم النفسي، ويقوّي الروابط الاجتماعية ويعزّز روح العطاء. فحين نرتبط بشخصٍ أو هدفٍ أو فكرةٍ بصدق، فإننا نجد في هذا الارتباط دافعًا للنضج والنمو والتطور. فالتعلّق الإيجابي يجعل العلاقات الإنسانية أكثر دفئًا، ويمنح الأفراد طاقةً لمواجهة تحديات الحياة بثقةٍ وثبات.
لكن الجانب السلبي للتعلّق المفرط لا يقلّ خطورة، إذ قد يذيب الإنسان في الآخر حتى يفقد ذاته وهويته، فيعيش تحت رحمة عاطفةٍ متقلبة تسيطر على مشاعره وسلوكياته. يشعر المتعلّق دومًا بالخوف من الفقد والابتعاد، فيتأرجح بين القلق والغيرة والاحتياج المفرط. ومع مرور الوقت، يتحوّل هذا الشعور إلى نوع من التبعية النفسية التي تُضعف الشخصية وتمنع الفرد من اتخاذ قراراته بحرية. كما أن التعلّق الزائد يجعل صاحبه أكثر عرضة للاستغلال العاطفي، لأنه يكون على استعدادٍ للتنازل عن كثير من حقوقه خوفًا من الهجر أو الفقد.
ومن الناحية النفسية، يؤثر التعلّق غير المتوازن على استقرار الفرد الداخلي، فيزرع بداخله مشاعر القلق والاكتئاب ويضعف ثقته بنفسه. أما اجتماعيًا، فإنه يخلق علاقات غير صحية تفتقر إلى التوازن، حيث يعيش طرف في حالة من التعلق المرضي بينما يشعر الآخر بالاختناق والرغبة في الانسحاب. ومع مرور الوقت، يمكن أن يؤدي ذلك إلى انهيار العلاقة ذاتها التي كان الهدف منها تحقيق الأمان.
ولا يمكن الوصول إلى علاقة سوية إلا حين يدرك الإنسان أن التعلّق لا يعني الامتلاك، وأن الحب لا يكتمل إلا بحرية الطرفين. فالتوازن هو جوهر كل علاقة ناجحة، وهو الذي يحوّل التعلّق من عبءٍ إلى نعمة. ويبدأ هذا التوازن من الوعي الذاتي، حين يتعلّم الإنسان أن يجد الأمان داخله لا خارجه، وأن يمنح الحب دون أن يفقد نفسه في طريقه. فالعلاقات التي تقوم على التعلّق الصحي هي تلك التي تحتفظ بمساحة شخصية لكل طرف، وتسمح بالنمو الفردي دون خوفٍ أو تهديد.
إن التعلّق في النهاية ليس خطأً، بل جزء من إنسانيتنا. لكن الخطأ يكمن في أن نجعل منه وسيلة للهروب من الوحدة أو جسرًا نعبر به نحو الاعتماد الكلّي على الآخر. فالحب الحقيقي هو أن نختار البقاء لا لأننا لا نستطيع الحياة دون أحد، بل لأن الحياة تصبح أجمل بوجوده. إن التعلّق الواعي هو الذي يجعل القلب حيًا دون أن يكون أسيرًا، ويجعل العلاقة ملاذًا لا سجنًا، ودفئًا لا قيدًا.