مقالات

الدكتور محمد سيد أحمد يكتب: من الذي قتل رفعت المحجوب؟!

خط أحمر

الدكتور رفعت المحجوب هو رئيس مجلس الشعب والرجل الثاني في مصر خلال الفترة من ١٩٨٤ وحتى اغتياله في ١٢ أكتوبر ١٩٩٠، وهو الرجل الذي أثيرت حوله العديد من القصص والروايات سواء في حياته أو بعد مماته، ولعل أبرز هذه القصص والروايات الغموض الذي أحاط عملية اغتياله، فالظاهر يقول أن جماعات الإسلام السياسي خاصة جماعة الجهاد هي من قتلته، وتم القبض على أعضائها ومحاكماتهم، لكن هذه الرواية المعلنة ليست هي الوحيدة، فهناك رواية أخرى تقول أن الرجل كان على خلاف حاد مع رأس النظام والحكومة، وهناك رواية ثالثة تقول أن خلاف الرجل كان مع رجال المال والأعمال في مصر حيث تصدى لهم وكان عقبة في سبيل تحقيق أحلامهم عبر التشريع، وهو من أطلق على نخبة الانفتاح مصطلح القطط السمان، ثم عاد وأطلق عليهم مصطلح البقرات السمان، وهناك رواية رابعة وأخيرة تقول أن النظام الرأسمالي العالمي الفاشي المنحط هو من تخلص من الرجل الذي كان عقبة في طريق تحقيق التبعية الكاملة له، فكان دائما ضد آليات السوق، والقروض وفقاً لتعليمات وروشتة صندوق النقد الدولي.

وخلال السطور التالية نحاول مناقشة مواقف الرجل من كل هذه الأطراف للتعرف على من هو صاحب المصلحة في تغييب الرجل الوطني، المنحاز للفقراء والكادحين والمهمشين، والذي دفع حياته من أجل الحفاظ على استقلالية القرار السياسي المصري، وذلك عبر التمسك بمشروع اقتصادي وطني مستقل بعيداً عن التبعية الاقتصادية الغربية، ومن خلال هذه المناقشة سوف تتضح أي الروايات هي الأصدق، ومن هو القاتل الحقيقي، لكن قبل الخوض في مناقشة المواقف يجب التعرف على من هو رفعت المحجوب، خاصة وأن كثير من الأجيال الجديدة لا تعرفه، ولد رفعت المحجوب في محافظة دمياط شمال مصر في ٢٣ أبريل ١٩٢٦، لأسرة متوسطة الحال، برز نبوغه وتفوقه دراسياً منذ سنواته الأولى، وكان شغوفاً بالمعرفة والعدالة الاجتماعية لذلك التحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة، وتخرج منها في عام ١٩٤٩، وكان من أوائل دفعته، ثم التحق بالدراسات العليا بقسم الاقتصاد بنفس الكلية وحصل على درجة الماجستير عام ١٩٥١، ثم حصل على بعثة لنيل درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة باريس عام ١٩٥٧، بعد عودته لمصر عين مدرساً بقسم الاقتصاد في كلية الحقوق جامعة القاهرة، ثم ترقى إلى درجة أستاذ مساعد، ثم أستاذ في قسم الاقتصاد، وكان له دوراً بارزاً في تطوير مناهج الاقتصاد السياسي، وكانت من أبرز إنجازاته الأكاديمية تأسيس كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة عام ١٩٦٠، وأصبح أول عميد لها حتى عام ١٩٧١، وفي عام ١٩٧٢ عين بدرجة وزير برئاسة الجمهورية، ثم عين بدرجة نائب رئيس وزراء برئاسة الجمهورية عام ١٩٧٥، ثم انتخب أميناً للاتحاد الاشتراكي العربي في عام ١٩٧٥، وفي ٢٣ يناير ١٩٨٤ تولى رئاسة مجلس الشعب حتى اغتياله في ١٢ أكتوبر ١٩٩٠.

دخل الدكتور رفعت المحجوب الحياة السياسية في ستينيات القرن العشرين، خاصة في ظل مشروع التخطيط الاقتصادي القومي الذي كان يتبناه الرئيس جمال عبد الناصر، وساهم المحجوب في وضع الخطط التنموية الكبرى، وساهم في صياغة رؤية متكاملة للاقتصاد الوطني ترتكز على الصناعة الوطنية والقطاع العام، لذلك كان كبير حراس الاشتراكية في مصر، وظل حتى نهاية حياته مدافعاً عن الحق في المساواة، وعدالة توزيع المكتسبات على أفراد الشعب، وحتمية أن يحصل الفقراء على فرص متكافئة للترقي، وتحقيق مكانة اقتصادية – اجتماعية أفضل، من خلال العمل والكد، لكن عندما تولى الرئيس السادات الحكم وتوجه إلى سياسة الانفتاح الاقتصادي، بدا يظهر التباين بين توجهات الدولة ورؤية رفعت المحجوب، حيث رفض التحول المفاجئ من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق الحر دون ضوابط، محذراً من تحول الدولة إلى سوق استهلاكي تابع، ومع تولي الرئيس مبارك للحكم ومع الضغوط التي مورست عليه من الخارج لتطبيق سياسات الخصخصة في نهاية الثمانينيات واستجابته لهذه النزعة وتسللها إلى الخطاب الحكومي، كان المحجوب من أوائل من نبهوا لخطورة هذه السياسات، وعارض بشدة بيع مؤسسات القطاع العام، معتبراً أن ذلك تصفية متعمدة لمقدرات الوطن، وتحويل الدولة إلى خادم لمصالح رأس المال الخاص، على حساب العدالة الاجتماعية، وتصدى في أحد اجتماعات الأمانة العامة للحزب الوطني عام ١٩٩٠ لعاطف عبيد وسمير طوبار مندوبي مبارك الذين حضروا الاجتماع لطرح فكرة بيع القطاع العام، وأكد على أن "هذه الشركات والمؤسسات بناها المصريون بعرقهم وضرائبهم ودماء أبنائهم في حرب أكتوبر، وهم أصحاب الحق في تحديد طريقة التعامل مع هذه الاستثمارات الضخمة، ثم أكد أن الدولة لا يمكن أن تتحول إلى مقاول يبني ويبيع للقطاع الخاص، الحكومة تبني هذه الشركات والصروح بسواعد شبابنا لتحقيق التنمية، ومن حق القطاع الخاص أن يبني وأن يدير شركاته وأمواله، ويتصرف فيها كيفما شاء"، وأثناء الاجتماع جاء اتصال من الرئيس للدكتور المحجوب وخرج للرد عليه، لكنه عاد ليواصل حديثه "الدولة لن تكون مقاولاً"، وفي سابقة أخرى شهيرة نزل الدكتور رفعت المحجوب من فوق منصة مجلس الشعب متخلياً عن صلاحياته كرئيسًا للمجلس معترضاً على اقتراح بإنشاء جامعات خاصة، وإلغاء مجانية التعليم بالجامعات الحكومية المقدم من بعض أعضاء الحزب الوطني، حيث قال "أنتم تطالبون بإسقاط الحقوق وحرمان الشعب المصري من العدالة الاقتصادية والاجتماعية، أنتم ترغبون في إنشاء جامعات للفاشلين علمياً القادرين مالياً، لأنكم لم تطوروا التعليم الأساسي قبل العبث المالي بالشهادات الجامعية، اليوم تطالبون بإلغاء مجانية التعليم، وغداً تبيعون القطاع العام، إن مصر بعد ثورة يوليو ١٩٥٢ أصبحت مجتمع الملايين، وليس مجتمع أصحاب الملايين والنصف في المئة، تلك صفحة طويت، ولن تعود إلا على جثتي".

وفي ١٢ أكتوبر ١٩٩٠ أصبح الدكتور رفعت المحجوب جثه، ثم انطلقت عجلة الخصخصة وبيع القطاع العام وإنشاء الجامعات الخاصة، ليتم طحن الفقراء والكادحين والمهمشين، وليعود المجتمع المصري لما قبل ثورة يوليو ١٩٥٢ مجتمع النصف بالمائة الذين يحيزون الثروة والسلطة والنفوذ، فعلى الرغم من إعلان جماعة الجهاد الإسلامي مسؤوليتها عن عملية الاغتيال إلا أنه بقيت الشكوك والفرضيات قائمة بأن مواقفه الصلبة ضد بيع القطاع العام وخصخصة التعليم وتفكيك الدولة الاجتماعية ربما أزعجت أطرافاً قوية داخل النظام أو خارجه، وقد تكون كل هذه الأطراف قد تجمعت مصالحها في لحظة واحدة للتخلص من الرجل الذي يقف عقبه في سبيل تحقيق أحلامهم، لم يكن اغتيال الدكتور رفعت المحجوب مجرد جريمة إرهابية عابرة، بل كان اغتيالًا لصوت وطني حر قاوم موجات التفريط في مقدرات الوطن، ورفض أن تدار الدولة بمنطق السوق، لقد مثل المحجوب جيلًا من القادة الذين آمنوا بمشروع جمال عبد الناصر وثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ التي تعتبر الكرامة الوطنية تبدأ من الاقتصاد، وأن التعليم هو عماد السيادة، لذلك ستظل ذكراه حاضرة في الوجدان المصري، كأحد الذين قالوا " لا " حين ساد الصمت، ودفعوا ثمن تلك ال " لا " من حياتهم، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

محمد سيد أحمد مقالات خط أحمر رفعت محجوب خط أحمر
قضية رأي عامswifty
بنك مصر
بنك القاهرة