الدكتور أحمد عبود يكتب: رأس العش.. النار التي أحرقت وهم العدو


في يوم 25 يونيو 1967، وبعد أيام قليلة من نكسة حزيران التي خيمت على الأمة العربية بالحزن والانكسار، كانت هناك نقطة مشتعلة في سيناء ترفض الهزيمة، وتقول إن الرجال لا يُهزمون مهما تغيرت موازين القوى. في منطقة "رأس العش" جنوب بورسعيد، وبين الرمال التي ظن العدو أنها صامتة، كانت هناك نار تحت الرماد تنتظر لحظة الانفجار.
أرسلت إسرائيل قوة ميكانيكية ضخمة، مدعومة بعدد من الدبابات وناقلات الجند المدرعة، بهدف احتلال مدينة بورفؤاد، لتكتمل سيطرتها على ضفتي قناة السويس. كانت واثقة أن الجيش المصري قد تحطم بالكامل، وأن لا مقاومة ستواجهها. لكن في رأس العش، كانت المفاجأة التي لم تتوقعها، بل لم تتخيلها. ثلاثون مجندًا فقط من رجال الصاعقة المصرية، بأسلحة خفيفة وقاذفات RPG، وقفوا ينتظرون، لا يملكون دعمًا جويًا ولا غطاءً مدفعيًا، بل يملكون شيئًا أغلى من كل هذا: الإيمان بالوطن، والإصرار على ألا تسقط الأرض إلا فوق أجسادهم.
حين تقدمت القوات الإسرائيلية على الطريق الصحراوي المؤدي إلى بورفؤاد، باغتتهم نيران مركزة ودقيقة من رجال الصاعقة، الذين لم يترددوا في إطلاق قذائفهم على المدرعات المتقدمة. اشتعلت الدبابات واحدة تلو الأخرى، وسقطت المدرعات تحت ضربات لا تهدأ. لم تكن معركة متكافئة على الورق، لكنها على أرض القتال كانت درسًا في البطولة. قُتل ما لا يقل عن 8 إلى 12 جنديًا إسرائيليًا في المعركة، وأُصيب العشرات، وتدمّرت 6 مدرعات إسرائيلية على الأقل، بعضها كان من طراز "سنتوريون" البريطاني، الذي طالما تباهت به إسرائيل في معاركها. وفجأة، تحول الزحف إلى انسحاب، وتحول الطمع إلى ذعر، وتحولت رأس العش إلى جحيم أحرق وهم الجيش الذي لا يُقهر.
هذه المعركة، رغم صغر حجمها من حيث العدد والسلاح، كانت نقطة تحول نفسية وعسكرية. لم تسمح إسرائيل بنشر تفاصيل الخسائر رسميًا، كعادتها في التستر على الهزائم، لكن تقارير المخابرات الحربية المصرية أكدت حالة الارتباك والذهول التي أصابت قيادة العدو بعد الفشل الذريع في رأس العش. لقد سقطت الهيبة المصطنعة، وسقط معها الشعور بالعجز لدى الجندي المصري، وعادت الروح. لم تكن مجرد مواجهة محدودة، بل كانت لحظة فارقة أعادت ترتيب المعادلات، وأعلنت للعالم أن مصر، وإن انكسرت يومًا، فإنها لا تركع. من رحم هذه المعركة، ولدت حرب الاستنزاف، وبدأت مصر تكتب طريقها إلى نصر أكتوبر المجيد.
لم تكن رأس العش معركة تُدار من غرفة عمليات، بل كانت صرخة من دماء ثلاثين مقاتلًا، قرروا أن تكون أجسادهم جدارًا بين العدو وأرض الوطن. كتبوا بدمهم ملحمة من الشرف والعزة، وأرسلوا رسالة خالدة مفادها أن السلاح لا يُرعب إن لم يكن في يد رجال، وأن النصر لا يُقاس بالعدد بل بالإرادة. في رأس العش، اشتعلت النار الأولى، وأحرقت أوهام العدو، وأعادت للوطن اسمه وكبرياءه.
ولذلك، لا بد أن يتحلى الشعب دائمًا بإرادة معركة رأس العش، تلك الإرادة الصلبة التي لا تلين، ويقف بكل وعي وصدق خلف قيادته السياسية وجيشه الوطني، فالمعركة لم تنتهِ بعد. نحن اليوم في مواجهة كبرى، حرب من نوع مختلف، يلعب فيها الغرب وإسرائيل أدوارًا خبيثة لزعزعة الاستقرار وضرب الروح المعنوية. لكن مصر، كما واجهت في الماضي وانتفضت من الرماد، ستظل دائمًا عزيزة قوية بعزم رجالها المخلصين، الذين أقسموا أن تبقى الراية مرفوعة، والوطن شامخًا لا يُركع.