مقالات

الدكتور محمد سيد أحمد يكتب: هوامش على دفتر الجامعة الكرنفالية !!

خط أحمر


ليست المرة الأولى التي أتحدث فيها عن الجامعة المصرية وما أصابها من عطب، وخلل في منظومة القيم الجامعية، والمعايير التي تحكمها، وهو نفس ما أصاب المجتمع المصري من عطب، وخلل في منظومة القيم الاجتماعية، وفقدان المعايير التي وصفها عالم الاجتماع الفرنسي إميل دور كايم بالأنومي الاجتماعية، فقد أفردت في السابق العديد من المقالات كان أبرزها تلك السلسلة التي بدأت بمقال إعادة إنتاج الجهل!!، ثم فوضى منح الدرجات العلمية!!، ثم كيف يصنع أستاذاً جامعياً جاهلاً؟!، ثم أساتذة الجامعات بين الانجازات العلمية والانجازات الفيسبوكية!!، واليوم نعود لننكأ الجراح من جديد، ونكشف العورات، لعل من يصنعون هذه الحالة المرضية داخل الجامعة المصرية يعيدون حساباتهم من جديد، وبما أن أهم ما يحكمني في الكتابة هو فقه الأولويات، فقد تعلمت عبر فعل الكتابة المنتظمة أن اختيار الموضوع يرتبط عندي بأهميته سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي، فقبل ثلاثة أيام كتب الصديق والزميل الانثروبولوجي المبدع والأكاديمي المرموق الأستاذ الدكتور سيد فارس على صفحته الشخصية على الفيسبوك كلمات بسيطة لكنها عميقة الأثر "تحولت الجامعة اليوم إلى مكان كرنفالي ( احتفالات وتصوير واستعراض ومنظرة): جامعة كرنفالية"، وتفاعل مع البوست العديد من الأساتذة مؤكدين على الكلمات، وبالطبع فهمت ما بين السطور، خاصة وأننا في موسم ما قبل بدء الامتحانات، وفي تلك اللحظة تنتشر احتفالات الأساتذة والطلاب ببدعة مشروعات التخرج، والتي تتحول إلى تصوير واستعراض ومنظرة بل ورقص وزغاريد، ولا يكتفي هؤلاء بكسر هيبة الجامعة داخل الحرم الجامعي فقط، بل ينقلون هذه الفضائح ويوثقونها عبر صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن خلال نظرة سريعة على صفحات الفيسبوك الشخصية لهؤلاء الأساتذة والطلاب سوف نكتشف العجب العجاب، حيث يعتبرون ما قاموا به انجازاً علمياً، على الرغم من أنه جريمة مكتملة الأركان.

وهنا لابد من العودة بالذاكرة ٣٥ عاماً بالتمام والكمال، ففي عام ١٩٩٠، كانت بداية معرفتي بالمقصود بمشروع التخرج، ففي مطلع العام الدراسي ١٩٩٠/١٩٩١ كنت طالباً بالفرقة الثالثة بكلية الآداب جامعة عين شمس، وكان يدرس لي أحد المقررات الأستاذ الدكتور ثروت إسحق عليه رحمة الله، واختارني وثلاثة من الزميلات (فاطمة وحنان وأسماء) نظراً لتميزنا للمشاركة معه في فريق بحث كان يجريه لوحدة البحوث الاجتماعية التي يرأسها في مركز بحوث الشرق الأوسط الذي كان يرأسه في ذلك الوقت عميد كلية الآداب جامعة عين شمس الأستاذ الدكتور جاد طه، وكان قوام فريق البحث ٣٠ طالب وطالبة، كنا نحن الأربعة فقط من طلاب الفرقة الثالثة وباقي الفريق من طلاب الصف الرابع، وعرفت بعد ذلك أن هذا البحث هو مشروع تخرجهم، وكان عنوان البحث الموجود ضمن مطبوعات مركز بحوث الشرق الأوسط هو "تكيف الأسر الكويتية بالقاهرة إبان الغزو العراقي للكويت"، وهنا يجب التوقف أمام العنوان، ليدرك أساتذة الجامعات اليوم كيف كان يختار أستاذتنا موضوعات بحوثهم وبحوث طلابهم في مرحلة الليسانس؟! كان البحث استجابة فورية لأستاذ لديه رؤية للعالم، فقد كان الغزو العراقي للكويت حدثاً إقليمياً له تداعياته الدولية، وأثاره المحلية، وتم إنجاز البحث، وعقد له مؤتمر حضره رئيس الجامعة ونوابه وعميد الكلية ووكلائها وبحضور جميع الباحثين المشاركين في البحث تقديراً وتكريماً.

وانتقلنا للفرقة الرابعة في العام الجامعي ١٩٩١ / 1992، وتم توزيع الطلاب على الأساتذة الموجودين في القسم لعمل مشروعات التخرج، وكان التوزيع يتم بشكل عشوائي، وجاء توزيعي مع فريق بحث لأستاذ غير الأستاذ الدكتور ثروت إسحق، وهنا بذلت جهداً كبيراً لأكون بين فريق بحثه، وبتزكية منه وافق أستاذي المرحوم الدكتور سمير نعيم والذي كان رئيساً للقسم على نقلي، وانضممت لفريق بحث كبير وكما توقعت قام أستاذي باختيار موضوع ينم عن عمق تفكيره ورؤيته للعالم، وكان بالفعل موضوع الساعة "آراء النخبة المثقفة حول احتمالات الصلح بين العرب وإسرائيل على هامش مؤتمر مدريد للسلام ٣٠ أكتوبر – ١ نوفمبر ١٩٩١"، وكان البحث يتم أيضاً من خلال وحدة البحوث الاجتماعية بمركز بحوث الشرق الأوسط، وأنجزنا بحثاً عظيماً وكان من حسن حظي لقاء نخبة من كتاب وأدباء مصر العظام (محمد سيد أحمد وفهمي هويدي وأنيس منصور وجمال الغيطاني ويوسف القعيد والسيد يسين ورفعت السعيد وفريدة النقاش وصلاح عيسى ومحمود أمين العالم)، وخرج البحث ضمن منشورات مركز بحوث الشرق الأوسط، وعقد له مؤتمر كبير مثل سابقه.

وهنا نأتي للبحث عن فائدة وأهمية مشروعات التخرج، فعندما كانت لدينا جامعة حية وليست ميته، كان لدينا أساتذة عظام قاموا بتشكيل وعي طلابهم – النابهين – بأهمية البحث العلمي، فخلال سنوات الدراسة الجامعية يدرس لنا ثلاثة مقررات رئيسية هي النظرية ومناهج البحث وتصميم البحوث، ويأتي مشروع التخرج ليترجم عملياً فهم واستيعاب الطالب لهذه المقررات التي درسها نظرياً، وعندما يتخرج الطالب يكون قد امتلك ناصية البحث العلمي، وعندما انتقلنا للسنة التمهيدية للماجستير كنا ندرس ثلاثة مقررات فقط هي النظرية الاجتماعية ويدرسها لنا المرحومين الأستاذ الدكتور علي ليلة والأستاذ الدكتور محمود عوده، ومناهج البحث ويدرسها لنا المرحومين الأستاذ الدكتور سمير نعيم والأستاذ الدكتور السيد الحسيني، وقاعة البحث وكانت اختيارية واخترت أنا الأستاذ الدكتور ثروت إسحق الذي علمني أصول العمل الميداني، ولازالت أتذكر خبرات العمل مع أستاذي، وعندما أكتب سيرتي الذاتية وأسجل فيها المشروعات البحثية التي شاركت فيها، لا أنسى أبداً أن أسجل هذين البحثين الذين شاركت فيهما وأنا لازلت طالباً في مرحلة الليسانس.

واليوم وبعد ما أصاب الجامعة ما أصاب المجتمع المصري من تجريف على كافة المستويات، فغاب الأستاذ الجامعي الحقيقي، وعم الجهل والفساد وانتشرت الفهلوة وخفة اليد والسرقات العلمية، وأصبح هؤلاء من يسيطرون على وظائف أعضاء هيئة التدريس داخل أروقة الجامعات المصرية، فهل يمكن أن ننتظر من الذين حصلوا على درجاتهم العلمية بالفساد والسرقات أن يعلموا طلابهم في مرحلة الليسانس أصول المعرفة العلمية ودور النظرية والمنهج في إنتاج البحث العلمي، وهل يمكن لمثل هؤلاء أن يختاروا موضوعات بحثية لمشاريع التخرج تكون جديرة بالبحث والدراسة، وبالطبع لن نتحدث عن المضمون فقط نظرة للعناوين كافية، واستكمالاً للمهزلة يقومون بمنح الطلاب تقديرات ودرجات وهمية تعبر عن جهلهم، ولا يكتفون بذلك بل يقيمون الاحتفالات والتصوير والاستعراض والمنظرة، ونشر غسيلهم المتسخ على مواقع التواصل الاجتماعي، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

الدكتور محمد سيد أحمد هوامش على دفتر الجامعة الكرنفالية خط أحمر
قضية رأي عامswifty
بنك مصر
بنك القاهرة