الدكتور أحمد عبود يكتب: حين تُعلِّمنا الشدائد من نكون


تمرّ الحياةُ بأطوارٍ شتّى، وتتقلب بين اليسر والعسر، والرخاء والشدة، والنجاح والفشل. ومن بين هذه التحولات، تبرز الشدائد والظروف القهرية كعاملٍ محوريّ في صياغة سلوك الإنسان وتشكيل صفاته النفسية والأخلاقية. والظروف القهرية ليست سوى أحداث خارجة عن إرادة الفرد، تفرض نفسها بقوةٍ، فتختبر صبره، وتستنفر طاقاته، وتكشف عن معدنه الحقيقي.
فالإنسان، بطبيعته، ليس كائناً ثابتاً، بل هو كيان يتأثر بمحيطه، وينعكس عليه ما يمرّ به من تجارب. وعندما يقع في ظرفٍ قهريٍّ كفقدان عزيز، أو حربٍ مفاجئة، أو مرضٍ عضال، أو فقرٍ مدقع، تتغير نظرته إلى الحياة، وتتبدل أولوياته، وتُستثار فيه طاقات خفية لم يكن يعلم بوجودها.
قد تترك الظروف القهرية أثرًا إيجابيًا، فينمو الإنسان نفسيًا وروحيًا، ويزداد تعاطفًا مع الآخرين، ويتحول إلى شخصٍ أكثر تواضعًا وعمقًا. فالشدائد تعلّم الصبر، وتفتح الأبواب أمام الحكمة، وتجعل الإنسان يُدرك أن القوة لا تعني الغلبة فقط، بل الصبر على الألم، والقدرة على النهوض من تحت الركام.
لكن، في المقابل، قد تُخلّف الظروف القاسية آثارًا سلبية، فتغرس الخوف، وتُنمّي الحذر الزائد، أو تجعل الإنسان عدوانيًا وانطوائيًا فاقدًا للثقة. وهنا يبرز الفارق بين من يرى في الشدائد فرصة للتغيير الإيجابي، ومن يستسلم لها فتلتهمه وتدفعه إلى الانغلاق.
إنّ الظروف القهرية امتحانٌ صامت، لا يعلن عن نفسه إلا في أعماق النفوس، فهي كالنار التي تصهر المعادن، تزيل الشوائب وتكشف الأصل. وهنا يتبيّن الفرق بين من يصنع من المحنة منحة، ومن يجعل منها لعنة مستديمة.
وفي النهاية، فإنّ صفات الإنسان ليست منقوشة على حجر، بل هي قابلة للتطور والتبدّل، والشدائد ليست حتمًا معولَ هدم، بل قد تكون منطلقًا لبناء شخصية أكثر نضجًا واتزانًا. فكل ما يعانيه الإنسان قد يكون هو ذاته ما يصنعه.