الدكتور شريف العماري يكتب: أحفاد ريما


فى الثمانينات استيقظنا على إنفجار نتيجة إهمال فى أحد المصانع بالقاهرة و على أثره تحطم زجاج الشبابيك ووقع على الناس فى الشوارع محدش عارف إيه الموضوع ولكن أصابهم ذعر شديد هى حرب والا إسرائيل والا إرهاب، الناس جريت تصلى وتتصل بإخواتهم إللى مبيسألوش عليهم والجيران إتصالحوا على بعض وبيطمنوا على الأطفال وإللى مزعل أبوه جرى يطمئن عليه وإللى مُهمل أمه جرى يبوس إيديها والكل بيحكى عن الصدمة والخضة كنت أيامها فى المرحلة الإعدادية لاحظت إن الخضة والفزع كان إيجابى جداً رغم الرعب والخوف، والكل بقى كويس، وإللى على لسان الناس إن الدنيا مش مستاهلة، والموضوع عدّى ومرت الأيام (ورجعت ريما) ،الإخوات إتقاطعوا والأقارب إتخانقوا والأمهات أُهملت ورجعنا لتلكيكات الجيران والنفسنة وقطيعة الرحم والفسق والفساد والعند، وإتضح إنهم كانوا خايفين مش صادقين.
سنوات قليلة وبعد ما نسينا الصدمة والخضة ورجعنا عادى كله عايش بمزاجه كله بيقول لنفسه إنه مبيغلطش والناس هى إللى غلط .
وفى بداية التسعينات تحديداً 22أكتوبر 1992، بعد آذان العصر بعشر دقائق و قبل الإقامة ضرب زلزال شديد عدد من محافظات مصر وقتل 549 شخص كمرحلة أولية منهم أطفال فى المدارس وآلاف المصابين كنت لسة راجع من المدرسة الثانوية وجالس مع أمى رحمها الله وفجأة العمارة بتتهز والثلاجة والأثاث وصريخ وهوجة كبيرة الناس بتجرى محدش فاهم حاجة كله فاكر بيته بيقع أو مش فاهم ونزل يجرى مع الناس وخلاص ، أما الناس إللى فى المواصلات ملحقوش يحسوا بالزلزال لكن كانوا بيصرخوا هما كمان من منظر الشوارع إللى إتملت ناس بتجرى أشكال وألوان 30ثانية كأنهم أيام الفزع والخوف 30ثانية.
رعب حقيقى وإنخلاع للقلوب وفجأة توقف الزلزال بس المرة دى كانت أشد من القنبلة بتاعت الثمانينات ناس ماتت تحت الهدم وناس دهست بالأقدام منهم خال أولادى دهس على سلم المدرسة ولقى ربه ليكون شفيعاً لأهله مكنتش أعرف يومها أنى سأتزوج أخته وناس قلبها وقف من الرعب وكله بيقول أنجو بنفسى مشهد مصغر من مشاهد يوم القيامة التى أخبرنا بها القرءان الكريم، شوفت بعينى سبَّابين الدين جريوا على المسجد واتوضوا وصلوا العصر وفضلنا نردد سنوات بعدها شوفت فلان يوم الزلزال لما دخل صلّى وبنات إتحجبت ولبست واسع كان أيامها الإستريتش جديد وبردو فضلنا سنين نقول فلانة إتحجبت من يوم الزلزال ما شوفتوهاش قبلها كانت إزاى والقرءان إشتغل والطوارئ أُعلنت والمجتمع فـ30ثانية إتغير خصوصاً لما التليفزيون أعلن تحذير أن هناك توابع للزلزال وأرشدنا لتوخى الحذر ، منطقة مصر الجديدة فى الوقت ده كان فيها فاجعة خاصة وهى إنهيار كامل لعمارة بميدان هليوبوليس كان فيها مول تُجارى وكافيهات وشركات وعيادات ومؤسسات وبعض السكان ذوو المناصب ، العمارة فـ 30 ثانية أصبح عاليها سافلها وبعد ثلاثة أيام من الزلزال كان البث المباشر ناقل للحدث على التلفزيون المصرى مكانش لسة فى(فضائيات) لبست تريننج علشان أبقى خفيف الحركة وركبت و روحت أشوف العمارة عن قرب يمكن أعرف أساعد يعنى شهامة وكده ، لكن لقيت الموضوع كبير وقوات الأمن محاصرة المكان وقوات الإنقاذ فرنسية وإيطالية وكلام كبير، كان وزنى خفيف تسلقت أنا وبعض الشباب أعمدة مترو مصر الجديدة علشان نشوف ونحكى لما نرجع لأهلينا وفجأة سمعنا صياح وتكبير، إيه الموضوع قالوا القوات وجدت صوت رجل حى تحت الأنقاض الله أكبر... ثلاثة أيام تحت التراب مدفون بالفعل ووالدته و زوجته وابنته ماتوا بجواره، ثلاثة أيام يعيش فى قبر بالفعل به أموات، ثلاثة أيام لايدرى هل سيشعر به أحد أم سيحدث زلزال آخر يلهى الناس ولا يشعروا به حتى يموت، ثلاثة أيام كلهم وداع ثلاثة أيام كلهم ندم ثلاثة أيام كلهم أنين ثلاثة أيام كلهم يأس ثلاثة أيام كلهم شريط ذكريات بيندم عليه أو يحن ليه و لو رجع هيرجع من غير أمه و زوجته وابنته إللى بدأوا يتحللوا جنبه بالفعل ،ثلاثة أيام تَرجى وكلام مع ربنا و بس (رَبِّ ارجِعُون لعلّى أَعمَل صالِحاً فِيما تَرَكت) ،مفيش وسيط مفيش مناصب مفيش لهو ، (أكثم) رجع للحياة بعد ماجرَّب الجوع والعطش وشاف الموت بعنيه أكثم ده أشهر إسم بعد الزلزال لو كان أيام النت لأصبح تريند ،كانت الساعة الثامنة ونصف مساءً إنتظرت ساعتين كمان علشان أشوفه وهو خارج للحياة لكن الوقت طوِّل قالوا إنهم أعطوه ماء وطعام طبّى وبيرفعوا الأنقاض بحكمة لكى لا تسقط عليه فتقتله المهم روَّحت البيت وحكيت وتابعت الأحداث على القناة الأولى لغاية الساعة ١ بعد منتصف الليل كانوا أنقذوه ،و أول عشر أيام بعد الزلزال كان له توابع بسيطة وكل شوية نتوهم بهزة أرضية ونقول لبعض حسيت بالزلزال والا لأ ،وأصاب المجتمع المصرى حالة نفسية سلبية، لم يفق منها كثير من الناس إلى الآن وأعرف شاب من تأثُره بالأحداث حلم بالزلزال وقام ورمى نفسه من الشباك و بعدها عوفى الحمد لله وكالعادة الناس تصالحوا من ربهم و مع أنفسهم وتنازلوا وعفوا عن بعض ومع الوقت نسوا عاد الفساد ورجعت ريما.
ومرت الأيام وجائت غيامة لو نفتكر عام ١٩٩٧ وبردو فى عز النهار حوالى الساعة أربعة بعد صلاة العصر جائت غيمة سوداء لدرجة إن النهار بقى ليل وتخيل إنك دخلت محل خرجت بعد دقيقتين وكأنهم ثلاث ساعات وبقيت فى عز الليل وبردوا سيناريو التوبة تكرر مرة أخرى المشكلة إن الناس فاهمة كويس إن توبتهم مجرد خوف من الهلكة وليست تصالح مع الله ولذلك قال الله للمؤمنين (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) يعنى مش توبة وخلاص من أجل النجاة ،لأ دى توبة من أجل الله من سماحة الدين أن توبة الخوف تنفع لكن قد لا تدوم أو لا تقبل لأنها ليست نصوح يعنى ليست خالصة أما التوبة الخالصة بتكون قوية وصعب الفتنة بعدها.
اليوم فى أخبار عن أعاصير وأمطار ورعد وبرق وحظر سفر وأجازات من الحكومة والمدارس والجامعات و ربنا يقول(وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) سورة الإسراء.. التوبة أساسها الإعتراف بالخطأ وطلب العفو.. يا ترى فعلاً هنصلَّح نفسنا يا ترى فعلاً هنصَالِح ربنا وإلا بردو هترجع ريما لعادتها القديمة.