خط أحمر
الثلاثاء، 9 ديسمبر 2025 08:40 مـ
خط أحمر

صوت ينور بالحقيقة

رئيس مجلس الإدارة محمد موسىنائب رئيس مجلس الإدارةهشام موسي

رئيس مجلس الإدارة محمد موسىنائب رئيس مجلس الإدارةهشام موسي

مقالات

الدكتور محمد سيد أحمد يكتب: باكستان دولة نووية في قبضة القرار الأمريكي !!

خط أحمر

في اللحظة التي يتبدل فيها وجه العالم تحت وطأة صراعات النفوذ واشتداد قبضة القوى الإمبريالية، تظهر باكستان مجددا كحلقة مفصلية في شبكة التوازنات الدولية، دولة نووية كبرى، ذات عمق إسلامي واسع، لكنها محاصرة داخل معادلة سياسية واقتصادية لم تصنع بإرادة شعبها ولا بمقتضيات موقعها الحضاري، بل بإخراج محكم من واشنطن التي أحكمت قبضتها على مفاصل القرار فيها، لتبقى بعيدة – أو مبعدة – عن دورها الطبيعي في قضايا الأمة العربية والإسلامية، وفي القلب منها فلسطين.

لقد كشفت بعض الكتابات الغربية الراديكالية – في محاولة تحليل المشهد الراهن في باكستان – عن حقيقة أعمق: باكستان اليوم تشهد نموذجا جديدا من الحكم العسكري المقنع، انقلابا هادئا بلا دبابات، لكنه لا يقل خطورة عن الانقلابات الصاخبة التي عرفها تاريخ العالم الثالث. فبين رئيس وزراء مدني اسمه شهباز شريف، وقائد جيش بات يتحكم في شرايين الدولة كلها اسمه عاصم منير، يتبدى المشهد السياسي على نحو لا يخفى معناه: سلطة مدنية بوجه عسكري، وهيمنة عسكرية بغطاء مدني.

إن هذا التحول ليس شأنا باكستانيا داخليا فحسب، بل هو مسألة عربية وإسلامية من الطراز الأول. فحين تهمش واشنطن الدور الباكستاني وتعيد هندسة النظام السياسي بما يضمن لها ضابط إيقاع مواليا في كل الملفات الحساسة – من ملف الحرب والسلام مع الهند إلى إدارة الاستثمارات الأجنبية – فهي بذلك تضمن أن تبقى باكستان، الدولة النووية الوحيدة في العالم الإسلامي، خارج معادلة القوة الحقيقية التي يمكن أن تدعم قضايا الأمة.

لقد جاء ذكر الرئيس الأميركي دونالد ترامب لاسمي شهباز شريف وعاصم منير جنبا إلى جنب خلال إعلانه خطة للسلام في غزة، ليكشف عن المعادلة الحقيقية: واشنطن تعرف جيدا أين تصنع القرارات في إسلام آباد، وهي لم تعد تتعامل مع الحكومة المدنية إلا باعتبارها واجهة، أما صانع القرار فهو قائد الجيش الذي استقبلته الإدارة الأميركية مرتين في البيت الأبيض خلال أشهر، في اجتماعات تجاوزت القضايا الأمنية إلى ملفات الاقتصاد والطاقة، وهي ملفات في الأصل من صميم الوزارات المدنية.

إنها ليست فقط إزاحة لعمران خان – الشخصية الأكثر شعبية – ولا مجرد هندسة انتخابية عام 2024، بل إعادة تعريف شاملة للدولة الباكستانية، حيث الجيش هو القوة المحركة للسياسة والاقتصاد والدبلوماسية، ولعل التعديل الدستوري الذي منح منير حصانة مدى الحياة وولاية قابلة للتجديد، هو التعبير الأكثر فجاجة عن هذه الهيمنة. غير أن السؤال الذي يجب أن يطرح عربيا وإسلاميا هو: ماذا يعني هذا التحول لنا؟

إن باكستان بما تحمله من ثقل نووي وبشري وجغرافي، كان يمكن أن تكون ركنا أساسيا في بناء جبهة إسلامية تكسر التفرد الإمبريالي الأميركي في المنطقة، وأن تكون سندا للمشروع العربي في استقلال القرار واستعادة فلسطين. لكن السيطرة الأميركية على مسارها السياسي – عبر الجيش هذه المرة – تجعلها جزءا من هندسة النظام الإقليمي الأميركي، لا جزءا من مشروع التحرر العربي والإسلامي. وبينما يتباهى وزير الدفاع الباكستاني بأن "الترتيب الهجين يصنع المعجزات" لأنه جلب قروضا من صندوق النقد وأعاد الدفء للعلاقات مع واشنطن والرياض وأبوظبي وبكين، فإن الحقيقة هي أن باكستان دفعت ثمنا باهظا: تحولت الحكومة إلى جهاز إداري، والبرلمان إلى منصة شكلية، والدولة كلها إلى نموذج تدار فيه السياسة والاقتصاد من مؤسسة عسكرية تقيم حساباتها وفق مصالحها وشبكات نفوذها، لا وفق تطلعات الشعب الباكستاني ولا وفق مصالح الأمة.

وهنا مكمن الخطورة على العالم العربي والإسلامي. فجيش بهذه الصلاحيات، وبهذه العلاقة الخاصة مع واشنطن، وبهذه المكانة الجديدة بعد الحرب القصيرة مع الهند عام 2025، يمكن أن يتحول إلى لاعب في الحسابات الإقليمية وفق ما تمليه الولايات المتحدة لا وفق ما تمليه مصلحة الأمة. وهو ما قد يفسر الصمت الباكستاني – الرسمي على الأقل – تجاه المذابح المستمرة في فلسطين، رغم أن باكستان كانت تاريخيا إحدى أكثر الدول الإسلامية وضوحا في دعم قضيتنا المركزية.

إن ما يجري في باكستان درس آخر من دروس القرن الجديد: الدول التي لا تحصن مؤسساتها المدنية وتستند إلى شعوبها تبقى عرضة لإعادة تشكيلها من الخارج. وكما تعرضت الأمة العربية لما يشبه "الهندسة السياسية" منذ عقود، تعاد اليوم التجربة ذاتها على أرض باكستان. ولذلك فإن مسؤوليتنا – كعرب ومسلمين وقوى تؤمن بوحدة المصير – ليست في مراقبة المشهد فقط، بل في إعادة بناء رؤية مشتركة تعيد للدول الإسلامية الكبرى، وفي مقدمتها باكستان، دورها التاريخي. فزمن التهميش لا يليق بدولة نووية وعمقها الاستراتيجي يمتد من جبال الهندوكوش إلى قلب الأمة.

باكستان اليوم أمام مفترق طرق، وكذلك نحن، إما أن تكون جزءا من نهضة الأمة، أو جزءا من مشروع الهيمنة عليها، والمسؤولية مشتركة، والتاريخ لا ينتظر المترددين، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

الدكتور محمد سيد أحمد باكستان دولة نووية في قبضة القرار الأمريكي خط أحمر
قضية رأي عامswifty
بنك مصر
بنك القاهرة