خط أحمر
السبت، 15 نوفمبر 2025 10:15 صـ
خط أحمر

صوت ينور بالحقيقة

رئيس مجلس الإدارة محمد موسىنائب رئيس مجلس الإدارةهشام موسي

رئيس مجلس الإدارة محمد موسىنائب رئيس مجلس الإدارةهشام موسي

مقالات

الدكتور محمد سيد أحمد يكتب: مصير علم الاجتماع والمشتغلين به في مصر !

خط أحمر


لم يعد علم الاجتماع في مصر يعيش أزهى أيامه كما كان الحال في النصف الثاني من القرن العشرين، حين كان "العالِم الاجتماعي" صوتًا مسموعًا في دوائر صنع القرار، ومشاركًا فاعلًا في صياغة السياسات العامة وفهم تحولات المجتمع، آنذاك كانت أسماء مثل حسن الساعاتي وعلي عبد الواحد وافي وعاطف غيث وأحمد أبوزيد وسعد الدين إبراهيم والسيد يسين وعبد الباسط عبد المعطي ومحمود عودة وسمير نعيم والسيد الحسيني وعلي ليلة ومحمد الجوهري جزءًا من المشهد الفكري والسياسي، وكان للعلوم الاجتماعية حضورها في الخطاب العام وفي توجيه الرأي العام وصناعة الوعي.

لكن اليوم، يبدو المشهد مختلفًا إلى حدٍّ يدعو للقلق، مع التحولات الكبرى التي تشهدها الدولة المصرية خلال العقد الأخير، برز توجه رسمي واضح نحو تمجيد العلوم التطبيقية والتقنية على حساب العلوم الإنسانية والاجتماعية، ومع تزايد الخطاب حول "التحول الرقمي" و"الذكاء الاصطناعي" و"اقتصاد المعرفة"، انكمش دور علم الاجتماع حتى بات على هامش السياسات التعليمية والتنموية، وهو ما يثير تساؤلات عميقة حول مصير علم الاجتماع والمشتغلين به في مصر، وموقعهم في خريطة التنمية الوطنية الجديدة.

لم يعد خافيًا أن الخطاب الرسمي في مصر – كما في أغلب دول المنطقة – يتجه نحو ما يسمى بـ"العلم النافع"، أي العلوم المرتبطة مباشرة بالإنتاج والتكنولوجيا وسوق العمل، في المقابل، تُقدَّم العلوم الإنسانية وكأنها "ترف فكري" لا يُدرّ دخلاً ولا يسهم في حل الأزمات الاقتصادية.

هذا التحول في القيم المعرفية انعكس بوضوح في سياسات التعليم والبحث العلمي، حيث تقلصت موازنات كليات الآداب والعلوم الاجتماعية، وضعفت فرص خريجيها في التوظيف، بل وأصبحت بعض الجامعات تنظر إلى أقسام الاجتماع والفلسفة والتاريخ بوصفها عبئًا ماليًا لا مردود له.

لكن تجاهل البعد الإنساني والاجتماعي في التنمية خطأ استراتيجي فادح، فالمشروعات الكبرى لا تُقاس فقط بعدد الكيلومترات المعبدة أو الأبراج المشيدة، بل بمدى انسجامها مع المجتمع وثقافته وقيمه، فالتنمية ليست أرقامًا في التقارير بقدر ما هي تحولات في الوعي والسلوك والبنى الاجتماعية، وهنا تحديدًا يبرز دور عالم الاجتماع، من فهم البنية الطبقية وتحليل أنماط السلوك الجمعي، إلى تشخيص التحولات القيمية التي تصاحب التغير الاقتصادي والتكنولوجي.

المشتغلون بعلم الاجتماع في مصر يعيشون اليوم حالة من الاغتراب المؤسسي والمجتمعي، فمن جهة، تقلصت فرصهم في المشاركة في صنع القرار أو الاستشارات الحكومية، إذ تُسند الدراسات الميدانية والاجتماعية إلى مراكز بحث خاصة أو لشركات علاقات عامة تعمل بمنطق السوق، لا بمنطق العلم، ومن جهة أخرى، يعانون من ضعف الموارد داخل الجامعات، وتدني رواتب أعضاء هيئة التدريس، وتراجع الإقبال الطلابي على أقسامهم.

بل إن بعض الأقسام – وفق شهادات أساتذة في جامعات القاهرة وعين شمس وحلوان والاسكندرية – تواجه خطر الإغلاق أو الدمج بحجة "قلة الإقبال" أو "عدم الجدوى"، كما أصبحت عملية النشر العلمي في الدوريات المحكمة المحترمة مغامرة معقدة بسبب القيود التمويلية والإدارية، وهكذا يجد الباحث الاجتماعي نفسه محاصرًا بين بيروقراطية جامعية لا تشجع البحث الجاد، وسوق عمل لا يرحب بخريجيه.

يضاف إلى ذلك أن الإعلام نادرًا ما يستضيف علماء الاجتماع في النقاشات العامة حول القضايا الاجتماعية، مفضلًا "المحللين" و"المعلقين" غير المتخصصين، ما أدى إلى تهميش الصوت العلمي الرصين في فهم ظواهر العنف، أو الانحرافات السلوكية، أو التحولات القيمية التي يعيشها المجتمع المصري.

من المفارقات اللافتة أن الدولة التي تتحدث عن التنمية الشاملة والتحول الرقمي، تغفل أن هذه التحولات نفسها تُحدث ارتباكًا اجتماعيًا عميقًا يحتاج إلى قراءة علم الاجتماع، فالتوسع في المدن الجديدة، والهجرة الداخلية، وتغير أنماط الأسرة والعمل، وصعود طبقات اجتماعية جديدة بمرجعيات استهلاكية مختلفة، كلها ظواهر لا يمكن إدارتها بالمعادلات التقنية وحدها، بل بفهم علمي للسلوك الاجتماعي والقيمي.

لقد أثبتت التجارب العالمية – من كوريا الجنوبية إلى الدول الإسكندنافية – أن الاستثمار في العلوم الاجتماعية لا يقل أهمية عن الاستثمار في التكنولوجيا، لأن فهم المجتمع هو الشرط الأول لتغييره، فكيف يمكن الحديث عن تطوير التعليم دون دراسة البنية الطبقية والثقافية للطلاب؟ وكيف نخطط للمدن الذكية دون تحليل أنماط التفاعل الاجتماعي داخلها؟

تاريخيًا، لعب علم الاجتماع في مصر دورًا تأسيسيًا في تحليل بنية المجتمع وتحولاته، فمن دراسات الريف والهجرة إلى أبحاث العشوائيات والبطالة، قدم هذا العلم رؤى مبكرة عن مشكلات لم تكن آنذاك تحت بؤرة الاهتمام الرسمي، وقد كان علماء الاجتماع بمثابة "أجهزة إنذار مبكر" تنبه الدولة إلى الاختلالات الاجتماعية قبل انفجارها، إقصاء هذا الدور اليوم لا يعني فقط تراجع مكانة تخصص أكاديمي، بل فقدان البوصلة الاجتماعية للدولة.

رغم الصورة القاتمة، فإن ثمة إشارات تبعث على الأمل، فالمجتمع المصري بدأ يدرك تدريجيًا أهمية العلوم الاجتماعية في تفسير ظواهر معقدة مثل العنف، وتفكك الروابط الاجتماعية، وانتشار المخدرات، وتأثير الإعلام الرقمي على القيم والسلوك، كما أن بعض المؤسسات الوطنية بدأت تستعين بباحثين اجتماعيين متميزين - حتى ولو نادرًا- لتحليل الاتجاهات العامة وتخطيط الحملات المجتمعية.

لكن استعادة مكانة علم الاجتماع تتطلب رؤية سياسية وثقافية جديدة تعيد الاعتبار للبعد الإنساني في التنمية، وتشجع التعاون بين الباحثين الاجتماعيين وصنّاع القرار، كما يحتاج المشتغلون بهذا العلم إلى إعادة تأهيل أنفسهم وتجديد أدواتهم ومناهجهم، والانفتاح على قضايا العصر مثل التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، وتوظيف المناهج الكيفية والكمية والتحليل الرقمي وعلوم البيانات في دراسة المجتمع.

ومن الضروري أيضًا أن ينفتح علم الاجتماع المصري على الإعلام، لا كوسيلة للترويج، بل كمنصة للتفاعل مع الجمهور، فإعادة ثقة المجتمع في "العالم الاجتماعي" تبدأ حين يشعر الناس أن هذا العلم يتحدث بلغتهم ويفهم مشكلاتهم اليومية.

إن الأزمة الراهنة لعلم الاجتماع في مصر ليست أزمة تخص أساتذته أو طلابه وحدهم، بل هي أزمة مجتمع يسير نحو التحديث المادي دون توازن قيمي أو معرفي، فالدولة التي تهمّش العلوم الإنسانية تفقد قدرتها على فهم ذاتها ومجتمعها، وتتحول التنمية إلى عملية تقنية باردة لا تراعي الإنسان في جوهرها.

إن الدفاع عن علم الاجتماع اليوم ليس دفاعًا عن تخصص أكاديمي مهدد بالانقراض، بل هو دفاع عن حق المجتمع في أن يفهم نفسه قبل أن يصوغ مستقبله، فالتكنولوجيا يمكن أن تبني الأبراج، لكنها لا تبني الإنسان، ولا تصنع تماسك المجتمع أو وعيه.

ولعل اللحظة الراهنة بما تشهده من تحولات قيمية واقتصادية وسياسية، تفرض علينا أن نعيد الاعتبار لعلم الاجتماع بوصفه "ضمير المجتمع" ومرآته النقدية، فبقدر ما نهمل هذا العلم، نفقد قدرتنا على رؤية أنفسنا، وبقدر ما نستعيده، نعيد للعلم مكانته وللمجتمع وعيه بذاته، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

بقلم / د. محمد سيد أحمد

الدكتور محمد سيد أحمد مصير علم الاجتماع والمشتغلين به في مصر خط أحمر
قضية رأي عامswifty
بنك مصر
بنك القاهرة