اللواء أحمد زغلول يكتب: حين تختلط الذاكرة بالوقائع.. الحقيقة وراء “الصاعقة الجزائرية” ومَن الذي حمى ميدان التحرير بعد نكسة 67؟


في تصريحٍ أثار الجدل مؤخراً، قال الفنان ياسر جلال، عضو مجلس الشيوخ المعيَّن، إن “قوات الصاعقة الجزائرية” كان لها دور في تأمين ميدان التحرير عقب نكسة يونيو 1967، وهو تصريح يعكس – على الأرجح – سوء فهم أو التباساً في الوقائع التاريخية، لأن ما حدث على أرض الواقع يختلف تماماً عن هذا التصور.
ولكي ننصف التاريخ ونحفظ ذاكرة الوطن، لا بد من تصحيح الصورة بوثائق وشهادات موثوقة، بعيداً عن الانطباعات العامة أو الروايات المتداولة دون سندٍ تاريخي.
أولاً : من الذي كان يؤمّن مصر بعد النكسة
حين تختلط الذاكرة بالوقائع.. الحقيقة وراء “الصاعقة الجزائرية” ومَن الذي حمى ميدان التحرير بعد نكسة 67؟
بعد نكسة يونيو 1967، كانت القوات المسلحة المصرية هي الجهة الوحيدة التي تولّت مسؤولية حماية الجبهة الداخلية وإعادة بناء الجيش من جديد بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
لم تتدخل أي قوات عربية – سواء جزائرية أو غيرها – في تأمين المدن أو المنشآت الحيوية داخل مصر، بما في ذلك ميدان التحرير أو العاصمة القاهرة.
القوات التي انتشرت في تلك الفترة داخل البلاد كانت من الشرطة العسكرية، والمخابرات العامة، ووحدات الصاعقة والمظلات المصرية، وهي التي واجهت الارتباك الداخلي وأعادت فرض النظام بعد الانسحاب من سيناء.
الوثائق الرسمية وشهادات قادة تلك المرحلة – مثل الفريق أول محمد فوزي والفريق سعد الشاذلي – لا تشير مطلقاً إلى وجود وحدات قتالية أجنبية في الداخل المصري، مما يؤكد أن ما حدث كان جهداً وطنياً مصرياً خالصاً.
ثانياً: ما هو دور الجزائر الفعلي بعد 1967؟
الجزائر بالفعل كان لها موقف قومي مشرّف في دعم مصر سياسياً وعسكرياً بعد النكسة، لكن هذا الدعم لم يكن ميدانياً داخل الأراضي المصرية، بل تمثّل في:
إرسال طائرات “ميج” و“سوخوي” إلى الجيش المصري لتعويض خسائر الطيران.
تقديم دعم مالي ولوجستي لإعادة تسليح القوات المسلحة.
استقبال طلاب عسكريين مصريين للتدريب المشترك وتبادل الخبرات.
أما فكرة أن “قوات صاعقة جزائرية” دخلت مصر لتأمين الميدان، فهي غير صحيحة تماماً من الناحية التاريخية والعسكرية، إذ لم تُسجَّل أي مصادر رسمية أو مذكرات لقادة الجيشين المصري أو الجزائري حدوث مثل هذا الأمر.
ثالثاً: مصر •• دولة الجيوش العربية
من المفيد التذكير بأن مصر هي أول من أنشأ قوات خاصة في العالم العربي، وتُعد المدرسة الأصلية التي تخرّج منها ضباط القوات الخاصة في أغلب الدول العربية، بما في ذلك الجزائر.
تأسست قوات الصاعقة المصرية عام 1955، أي قبل استقلال الجزائر بسبع سنوات (1962).
تولّى ضباط مصريون تدريب الكوادر العسكرية الجزائرية أثناء حرب التحرير ضد الاستعمار الفرنسي.
بعد الاستقلال، ساهمت بعثات من الجيش المصري في تأسيس الجيش الوطني الشعبي الجزائري، كما أُوفدت بعثات مصرية لتدريب وحدات المشاة والمدفعية والبحرية الجزائرية.
أي إن مصر لم تستعن بجيوش عربية لحمايتها، بل كانت هي من بنت وساعدت في تأسيس تلك الجيوش، من الجزائر إلى اليمن وسوريا والعراق وليبيا والسودان.
وهذا ما جعل من الجيش المصري ليس فقط جيشاً وطنياً فحسب، بل مؤسسة عربية رائدة في بناء العقيدة القتالية الحديثة في المنطقة.
رابعاً: الجيش المصري بعد النكسة •• من الانكسار إلى النصر
بعد النكسة مباشرة، بدأ الجيش المصري أعظم عملية إعادة بناء في تاريخه الحديث تحت قيادة الفريق أول محمد فوزي والفريق عبد المنعم رياض.
وفي سنوات قليلة، خاضت القوات المسلحة حرب الاستنزاف (1968–1970) التي كانت بمثابة التدريب الفعلي على النصر، حيث نفذت خلالها وحدات الصاعقة المصرية عمليات نوعية خلف خطوط العدو وضربت العمق الإسرائيلي في سيناء بقوة وإصرار.
ثم تُوِّجت هذه المسيرة في حرب أكتوبر 1973 حين عبرت قواتنا المسلحة قناة السويس في ملحمة تاريخية حطمت أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، وأثبتت أن مصر قادرة على تحويل الهزيمة إلى نصر بجهد أبنائها فقط دون دعم ميداني من أي جيش آخر.
خامساً: مسؤولية الكلمة حين تتعلق بالتاريخ
من الطبيعي أن يخطئ الفنان أو الإعلامي في المعلومة، لكن من الخطير أن تُتداول هذه الأخطاء كحقائق.
فالتاريخ العسكري المصري ليس مادة للانطباعات أو التقديرات الشخصية، بل رصيد وطني مقدّس يجب تناوله بالدقة والاحترام، لأنه يمثل ذاكرة الأمة وكرامتها، خاصة حين يتعلق الأمر بفترات مصيرية مثل نكسة 67 وما تلاها من إعادة بناء الدولة.
في النهاية، يمكن القول لم تدخل “صاعقة جزائرية” إلى مصر عقب نكسة 67، ولم تؤمّن ميدان التحرير، لأن القوات المصرية وحدها كانت تتولى ذلك.
أما الجزائر، فدورها كان قومياً داعماً ومشرّفاً في التسليح والمساندة السياسية، ولا ننسى الرئيس هواري بومدين ودوره في المساعدة على تسليح الجيش المصري، ومشاركة لواء من الجيش الجزائري في العمليات الميدانية خلال حرب أكتوبر المجيدة.
ويبقى الثابت عبر التاريخ أن مصر لم تُحمَ بغير سواعد أبنائها، لكنها كانت دائماً الدرع التي تحمي أشقاءها العرب وتبني جيوشهم، وستظل كذلك رمز القوة والريادة.

.jpg)










.jpg)























