الدكتور محمد سيد أحمد يكتب: الرعب الصهيوني من العقل العربي !!


في ذاكرة الأمة، تبقى أسماء قليلة تلخص صراع العقول قبل صراع الجيوش، وتجسد المعنى الحقيقي للكرامة العلمية والوطنية، واحد من هؤلاء هو الدكتور يحيى مصطفى توفيق المشد، العالم المصري الذي أرعب الكيان الصهيوني بعقله النادر، واغتالوه لأنهم أدركوا أن هزيمتهم قد تأتي على يد عالم لا يحمل بندقية بل معادلة نووية. ولد المشد عام 1932 في مدينة بنها، زمنًا كانت فيه مصر تبحث عن طريقها نحو النهضة العلمية، تخرج في كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية عام 1952، وابتعث إلى الاتحاد السوفيتي حيث نال الدكتوراه في هندسة المفاعلات النووية، وهناك صقل علمه واكتسب خبرة جعلته من أوائل الخبراء العرب القادرين على فهم أعقد تكنولوجيا القرن العشرين.
عاد إلى مصر عام 1963 ليشارك في الهيئة المصرية للطاقة الذرية، بقرار من الرئيس جمال عبد الناصر، وكان ذلك زمن الحلم العربي الكبير، حين كانت القاهرة وبغداد ودمشق تتحدث بلغة المستقبل، وتؤمن بأن امتلاك العلم هو الطريق إلى التحرر، لكن الحلم لم يكتمل، فبعد نكسة يونيو 1967، جمد المشروع النووي المصري، كما جمد الحلم العربي برمته، غير أن المشد لم يتوقف، وواصل العمل أستاذًا بكلية الهندسة، مؤمنًا بأن "العلم لا يهزم حتى لو هزمت الجيوش".
وفي منتصف السبعينيات، استدعى العراق نخبة من العلماء العرب للمساهمة في برنامجه النووي، بعد توقيع اتفاقية تعاون مع فرنسا لبناء مفاعل "تموز"، وكان من بينهم يحيى المشد، الذي تولى مهمة الإشراف العلمي على استيراد المواد النووية ومتابعة تنفيذ الاتفاقيات، وهناك في بغداد، وجد المشد الحلم العربي الذي أُجهض في القاهرة ينبض من جديد، فعمل بصرامة نادرة، ورفض كل محاولات الالتفاف أو الغش في المواد النووية، وفي هذا السياق تشير الوثائق إلى أنه رفض شحنة من اليورانيوم الفرنسي لمخالفتها المواصفات، رغم الضغوط السياسية، فكانت تلك اللحظة التي وضعت اسمه على قوائم القتل في تل أبيب.
فمنذ بدايات المشروع النووي العراقي، تابعت إسرائيل التفاصيل بقلق بالغ، فالعراق بثروته وعقوله، كان مؤهلاً لامتلاك قدرات نووية حقيقية، تغير معادلة الردع في الشرق الأوسط، لذلك كان وجود عالم مصري قومي مثل المشد على رأس المشروع، بمثابة "كابوس أمني" بالنسبة للموساد، وفي تقارير صحفية صهيونية صدرت لاحقًا، ورد أن "العراق سيجد صعوبة في استكمال برنامجه النووي بعد غياب العالم المصري"، وهي جملة تحمل في طياتها شماتة مكشوفة، بل اعترافًا غير مباشر بالمسؤولية عن اغتياله.
في يونيو 1980، سافر الدكتور المشد إلى باريس لمتابعة استلام شحنة نووية فرنسية، ونزل في فندق "لو ميريديان"، وهناك عثر عليه جثة هامدة داخل غرفته رقم 941، وتحدثت التقارير عن ضربات قاتلة في الرأس، وأثار عنف تدل على مقاومة، أما الشاهدة الوحيدة — عاملة الفندق — فاختفت سريعًا، لتقتل بعد أسابيع في حادث غامض، أما الشرطة الفرنسية فقد أعلنت أن "القاتل مجهول"، لكن أحدًا في العواصم العربية لم يشك لحظة في أن الموساد الإسرائيلي يقف وراء الجريمة، فبعد أقل من عام، في يونيو 1981، شن العدو الصهيوني غارته الشهيرة على مفاعل تموز العراقي، لتكتمل فصول المؤامرة: قتلوا العالم أولًا .. ثم دمروا الحلم.
إن اغتيال يحيى المشد لم يكن استهدافًا لعالم مصري فحسب، بل رسالة تهديد لكل عقل عربي حر يجرؤ على الحلم بالاستقلال العلمي، لقد أدرك العدو منذ قيام كيانه أن معركة البقاء ليست فقط في ميادين القتال، بل في المختبرات أيضًا، فالعقل العربي المستقل أخطر من ألف دبابة، والمشهد لم يتكرر صدفة: فقبل المشد وبعده، سقط عشرات العلماء العرب في حوادث "غامضة"، من العراق إلى سوريا ومصر، في سلسلة اغتيالات تشترك جميعها في بصمة واحدة هي بصمة الخوف الصهيوني من تفوق عربي محتمل.
رحل الدكتور يحيى المشد، لكن بقي اسمه رمزًا للعالم الشريف الذي رفض أن يبيع ضميره، وفضل الموت على التنازل، لم يكن منتمياً إلى حزب أو جماعة، بل إلى أمة، كان يرى أن العلم لا معنى له إذا لم يسخر لخدمة الكرامة الوطنية والتحرر من التبعية، وإذا كان التاريخ يكتب عادة بأيدي المنتصرين، فإن ذاكرة الشعوب تكتب قصص شهدائها بمداد من الوفاء، لقد خسرنا المشد جسدًا، لكننا ربحناه فكرة أن العلم سلاح، وأن الحرية لا تمنح بل تنتزع.
في عالم تهيمن عليه قوى الغطرسة والاحتلال، تظل قصة يحيى المشد تذكيرًا بأن الهيمنة الصهيونية لا تخشى الخطابات، بل تخشى العلماء، فهو لم يحمل سلاحًا، لكنه امتلك أخطر ما يمكن أن يخيفهم: العقل العربي الحر، ولذلك فإن إحياء ذكراه ليس مجرد وفاء لشهيد، بل تأكيد على أن النهضة لا تبنى إلا بالعقول المقاومة، وأن كل معمل في وطننا العربي هو جبهة من جبهات التحرير، لذلك يجب أن ننتبه للمؤامرة التي تتم اليوم ضد العلوم الإنسانية والاجتماعية في مجتمعنا العربي، ويجب علينا إحياء علم الاجتماع كمشروع وطني وقومي لتحرير العقل الجمعي العربي، الذي يسعى العدو الصهيوني لتغييبه عبر التأكيد على عدم أهميته كعلم وتخصص، فهناك رعب صهيوني من العقل العربي الذي يمكن أن ينشر وعيًا حقيقيًا ويكشف مشروعه الاستيطاني التوسعي المجرم، وهي المهمة التي يمكن أن يقوم بها علم الاجتماع العربي، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

.jpg)










.jpg)























