محمد عبد اللطيف لماذا يغيب ”الفتوة” فى الصعيد ؟


لم تعرف مجتمعات الصعيد ، المعنى التقليدى لمفهوم "الفتوة"، الشائع فى الأدبيات الشعبية والروايات وأفلام السينما والدراما ، سواء المعنى الطيب الذى يدافع عن حقوق المظلومين وينتصر للضعفاء " الحرافيش" أو البلطجى الشرير، صاحب السطوة ، الذى يفرض الجباية والاتاوات والتجبر على الفقراء مقابل حمايتهم .
تركيبة المجتمع الصعيدى تبدو فى أعماقها، أقرب إلى طبيعة وصفات أهل الصحراء،الذين فرضت عليهم قساوة البيئة ومفردات الطبيعة الجافة الحماية الذاتية ، من دون اللجوء الى الـ "فتوة" الذى ارتبط ظهوره بعصور الاضمحلال السياسي ، ورخاوة الدولة المركزية ،وغياب الأمن ، ليحل بالبلطجة محل سلطة الحكومة فى دائرة نفوذه ،حيث يفرض الجباية والاتاوات، وغالباً يكون الفتوة من الفئات الهامشية الذى يعتمد على قوة بنيانه الجسمانى ودعم الخارجين على القانون ، أما فى الصعيد فتنتصر النعرات القبلية على ما سواها، حيث نفوذ القبائل وسطوتها ، الى جانب أن الرضوخ لفرض الاتاوات يمثل عارا تتوارثه الأجيال ، خاصة اذا علمنا أن الحوادث الثأرية تنشأ لأتفه الأسباب، أو لمجرد التحرش اللفظى ، وهذا بدوره يمثل فى الموروث الشعبى نوعا من الردع لمن يحاول فرض سطوته، وفى نفس الوقت يمنح المجتمع مكانة مرموقة لمن يتصدى للأخذ بالثأر ، ترقى لمستوى زعامة العائلة أو القبيلة ، ووجود تلك النمازج ، ربما توفر الحماية للعائلات من الناحية الضمنية.
لكن هذا لايمنع من تداول الصفات التقليدية المرتبطة بالفتوات على أولاد الليل وقطاع الطرق ،الذين تتنوع مسمياتهم من محافظة الى أخرى ،لكن المصطلح الرائج عنهم لا يتجاوز حدود تسميتهم بالـ "مطاريد "، وقد أضفت عليهم الصحافة والسينما والدراما هالة من البطولات والأوصاف، مثل "الخط "، الذى يظهر فى صورة المظلوم والمقهور من المجتمع فيتحول الى قاتل ولص وحماية الفقراء من ظلم الباشوات .
أسباب عدة تؤسس للفروق الجوهرية بين ظهور الفتوة فى المناطق الشعبية بالقاهرة واختفاءه فى الصعيد ، فبخلاف القاهرة، يتعايش فأفراد المجتمع فى الصعيد دون حماية من الآخرين، تستمد الغالبية أمنها تحت مظلة العائلات والقبائل ، باعتبارها "عزوة" ينتفضون لأجل ذويهم ،ومواجهة كل أشكال المساس بهم أو بأموالهم أو تجارتهم من المطاريد وأولاد الليل، كما أن الطبيعة المجتمعية بالأساس تأبى الخضوع للغير ولا تسمح بفرض نفوذه عليهم ،لذا تقوم العلاقات بين القبائل على التوازن ، واذا حدث خلاف فلكل عائلة كبير، ولكل قبيلة كبار، يمثلون الواجهة لذويهم ، والعائلات تمثل عزوة لأفرادها ، فالقوى يردعه القوى .
فى الصعيد يذهب المفهوم ذاته الى منحى آخر، بعيد كل البعد عن الصورة النمطية، المترسخة فى الذهنية الشعبية عن فتوات القاهرة فى أوائل القرن العشرين،كما رسَم ملامحها الأديب العالمي نجيب محفوظ في رواياته،، او كما جري تصويرها في السينما والدراما، فأحياناً يوصف الشخص الـ "عايق" بأنه "فتوة" ، على سبيل السخرية ، حال ممارسته سلوكيات خارج المألوف ، تتنافى مع قيم مجتمعات لها طبيعة قاسية ، مثل الأناقة والاهتمام بالملبس والتطيب بالعطور ،والسهر فى "الغرز" ، حيث احتساء الخمر ولعب القمار وتعدد العلاقات النسائية.
لكن هذا لا ينفي وجود قواسم مشتركة بين الصعيد كمجتمع و عالم الفتوات ، فقد ارتبط الشكل الظاهرى لـ "الفتوة" بحمل العصا أو "النبوت"، كوسيلة لاثبات القوة فى نظر البسطاء " الحرافيش"، ممن يخضعون لدائرة سيطرته فى الحارة أو الحى الشعبى، ولاضفاء الهيبة على شخصيته خارج نطاق نفوذه .
النبوت، أيضا، يمثل جزء أصيل من الموروثات فى صعيد مصر ،ولم يكن آداة للمبارزة بغرض الحصول على لقب "فتوة "كما هو شائع في القاهرة زمان ، انما آداة للتعبير عن قيم الشجاعة والفروسية، لكن صورته التقليدية بدأت تتلاشى عن عيون الأجيال الجديدة ، بعد ظهور الأسلحة النارية، وان ظل موجوداً ، حتى الآن ، ليس لأغراضه القديمة ، انما لأنه أحد المكونات الأساسية من مقتنيات البيوت، ويتم الاحتفاظ به وتوارثه للتباهى بالماضى ،خاصة اذا كان النبوت ملفوفا بالجلد الطبيعى وخيوط النحاس ، ومورثا عن شخص كانت له صولات وجولات بين أقرانه فى الأزمنة البعيدة ، بخلاف العصى العادية ، التى يمسكها الغالبية باعتبارها عادة .
من مظاهر الحفاوة باقتناء "النبابيت"، الاستعراض بها أثناء لعبة التحطيب، وهى نوع من الفنون الشعبية التى تحظى بجمهور واسع من أبناء الصعيد، تعقد لها الحلقات أثناءالاحتفال بموالد أولياء الله وفى الأفراح ، وتستخدم فى الرقص على أنغام المزمار ، هى وان كانت لعبة ترفيهية ، الا أنها تمثل نموزجا يحاكى فنون القتال ، وقد استخدموها فى مطاردة الفرنسيين أثناء محاولتهم النزول فى قنا ، فتصدى لهم أهالى قرية البارود بالنبابيت،ويعود ارتباط المصريين بالعصى والاهتمام بها الى عصور الفراعنة، فهم الذين ابتكروها، وصنعوها من فروع الشجر وقضبان نبات البردى ،للتدريب على القتال، لذا لم يكن غريبا أن يهتم بها قدماء المصريين ويجعلوها ضمن مكونات مقتنياتهم بالمقابر،فضلا عن وجود نقوشها البارزة على جدران معبد الكرنك ، فالنقوش تظهرها بأيدى أفراد يتمرنون على فنون القتال .