نيفين منصور تكتب ... ماذا لو كان لك الاختيار ؟


عصور مختلفة بأحداث متوالية تمر علي كوكب الأرض ، لكل عصر شكل ومضمون وأدوات، بعضها مبهر للبعض والبعض الآخر لا يتخيل يوماً أنه يستطيع لو كان لديه حرية الاختيار أن يختار في أي عصر يحيا. تُري كيف كانت الحياة في بداية الزمان؟ ... هل كانت مرضية لمن يحياها ؟ وأنت هل ترضي عن هذا الزمان ؟ هل تمنيت أن تختار عصر محدد لتحيا به ؟
تختلف مفاهيم الحياة والنجاح فيها وفقاً لطبيعة الشخصية، فالإنسان محب للمال والنفوذ ، ومن الممكن أن يختار أن يحيا في عصرنا هذا، ومن الممكن أن يجد متعته الحقيقية في استخدام التكنولوجيا ووسائل التواصل الحديثة ، وكافة الإمكانيات التي تسمح بزيادة أرباحه المالية باستمرار، وبالتأكيد سوف يسعي دائماً لمزيد من التقدم والنهوض والرقي، فكلما زاد المال وحب الإنسان له كلما سعي للرفاهية والتحديث المستمر لكل ما حوله من أدوات سواء كانت طرق يستعملها أو وسيلة مواصلات تسرع من قدرته علي التنقل بين البلاد، أو ماكينات تعمل بتكنولوجيا متقدمة تساعده علي زيادة الإنتاج في المجالات المختلفة.
أما الانسان الزاهد في الحياة الفقير الذي لازمه اليأس والبؤس والذي انقطع أمله في الوصول إلي أحلامه سوف يرفض الواقع المحيط به ولو خُيِّر لاختار أن يحيا في زمن الأنبياء كل حسب ديانته، متمنياً أن يجد ما يرضيه أو يطمئن فؤاده في جوار نبي يدعوه للصبر والتحمل ، أملاً منه في دخول الجنة لعلها تعوضه عما مر به في الحياة الدنيا من ذل وهوان وشقاء.
إنسان آخر يتمتع بداخله بروح المقاتل الجسور، ربما لو خُيِّر لاختار حياة الحروب والانتصار التي قرأنا عنها في كتب السابقين، والتي تروي بطولات فردية لرجال لا يهابون الموت، يبحث كل منهم عن المجد والخلود في ذاكرة التاريخ، يتمني البعض منهم أن يترك بصمة واضحة علي وجه الأرض فيذكره كل من يحيا عليها علي مر العصور، تلك الأرواح المقاتلة يقتلها الروتين والنظام والحدود والقوانين ، يشعر المرء منهم بالذل والهوان وسط كم القيود التي وضعها العالم المتحضر ، يظل يبحث طوال حياته عن منفذ يستطيع من خلاله أن يشعر بأنه علي قيد الحياة، تلك الأرواح تظل محطمة تشعر بالانهزام لأنها في باطن الأمر تحيا حياة روحانية لا تتناسب مع حياة البشر في هذا الزمان.
آخرون يتمنون أن يعودوا إلي زمن العلم والعلماء ولو خيروا لاختاروا الزمن الذي كان العلماء يطوفون فيه بكل حرية في البلاد المختلفة علي أرض الله بحثاً عن العلم والحكمة، يحيون حياة العزلة والبساطة، الهدف الأسمي لديهم هو الوصول إلي حقيقة الخلق، ومعني الحياة، يراقبون بدقة ما يدور حولهم، يحللون الأحداث، و يدرسون المحن، ويتفكرون في قصص البشر وطباع الأرواح بمختلف أشكالها وألوانها، يقارنون بين ما أُنزل في الكتب السماوية من أحكام وحكايات تحتاج إلي روحانية وشفافية لاستيعابها وتصديقها، وبين الواقع الملموس والعلم المثبت بالتجربة، هؤلاء من الصعب أن يشعر المرء منهم بالتوافق النفسي والجسدي مع هذا الزمان فيذهب البعض إلي إعتزال الناس والبعد عن الاندماج مع المجتمع، أقصي أحلامهم هي العودة إلي البدائية والبساطة حيث لا حدود ولا تقسيم ولا إجراءات وورق ولا سياسات بين الدول تمنع الانطلاق علي أرض الله بكامل الحرية وفِي أي وقت.
البعض الآخر من يبحث عن الفن والجمال في بلاد لا تقدر الفن، أو تمر بظروف إقتصادية صعبة أقصي طموحاتهم أن يعيشوا في عصر النهضة حيث الفن في أبهي صوره، في الزمن الذي يخلد ذكري الفنانين، ويقدر موهبتهم.
وفِي النهاية فإن التوافق مع الزمن أمر في غاية الصعوبة، يحتاج صبر وحكمة وتنازل في بعض الأحيان ، قد تُجْبَرك علي التنازل عن أحلامك وطموحاتك، وتضطر للتعايش مع واقعك، وتتحول الحياة إلي مجرد أيّام تنقضي، ويظل بداخلك أمل يصرخ باستمرار، لأنه لا يستطيع أن يظهر للنور ويُحْكَم عليه أن يحيا في الظلمات، وربما يكون أقصي أحلامه أن يظل في ذاكرة صاحبه، حلم يطفو مع روحه ، و يهون عليه ما يحياه من واقع لا يتناسب مع شخصيته.
خُلِقْنا جميعاً من روح وتراب، تختلف الوجوه وتتلون بألوان متباينة، منها الأبيض والأسود والأصفر وغيرها ، وتظل الأرواح رغم إختلاف تراب الأرض الذي تحيا فيه ، تطوف وفقاً لما يتناسب معها، تسعي للخلود، و تبحث عن المجد، كل حسب طبيعته، منهم من يتناسي سبب الوجود علي هذه الأرض ويسعي للتمتع بمتاعها الزائل، ومنهم من يبحث عن وجوده وماضيه وحاضره، ويسعي لترك بصمته عبر العصور، والقليل منهم من يتفهم دور الخليفة الذي فُرِضَ عليه في هذه الدنيا ، ووافق علي أن يؤديه باحتراف، فيتمسك بما أُنزِل في الكتب السماوية ويهتدي بهداه ويتفهم أن الحياة الدنيا مرحلة إنتقالية لن تدوم وإنما تبدأ من بعدها الحياة، فلا يهتم بما يُرضِي روحه من واقع إنما يشغله العبور بأمان من بوابة الأرض إلي بوابة السماء حيث الخلود وحيث الحياة.