مقالات

الدكتور محمد سيد أحمد يكتب: مصطفى مشرفة ومعركة العرب على المستقبل

خط أحمر

لم يكن الدكتور مصطفى مشرفة مجرد أكاديمي بارز، بل كان أحد أبرز العقول العربية في النصف الأول من القرن العشرين، ورمزًا نادراً لمشروع نهضوي عربي قائم على العلم والتحرر، وبين ميلاده في دمياط عام 1898 ورحيله الغامض عام 1950، تتشكل سيرة رجل جمع بين نبوغ علمي استثنائي، والتزام وطني واضح، ورؤية مبكرة لتوازنات القوى في عالم كان يتهيأ لولادة العدو الصهيوني ككيان مسلح بالعلم والمعرفة قبل السلاح.

ومن منظور علم الاجتماع السياسي، لا يمكن فهم مكانة مشرفة بمعزل عن السياق الاستعماري الذي أحاط بمصر والعالم العربي خلال النصف الأول من القرن الماضي، فقد أدرك الاستعمار البريطاني أن السيطرة لا تفرض بالقوة العسكرية وحدها، بل عبر منع المستعمر من إنتاج المعرفة، لذلك كان ظهور عالم عربي من طراز مشرفة يمثل تحديًا موضوعيًا لمنظومة الهيمنة، خاصة أنه لم يكن نموذج "العالم المنعزل"، بل المثقف الوطني الذي يرى أن الاستقلال السياسي لا يكتمل بلا استقلال علمي وتقني، تجلى هذا الوعي في مواقفه الداعية مبكرًا إلى أن يمتلك العرب أدوات البحث النووي، ليس بقصد عسكرة المنطقة، بل بهدف ألا يبقى العرب "متلقين" لعلوم الآخرين، وتلك الرؤية ـ برغم كونها علمية في ظاهرها ـ كانت ذات مضمون سياسي واضح، ربط النهضة العلمية بالتحرر القومي، وهي الفكرة نفسها التي ستنتشر لاحقًا مع مشروع جمال عبد الناصر.

ارتبط اسم مشرفة بعالم الفيزياء الشهير ألبرت أينشتاين، ليس من باب المقارنات الشعبوية، بل من باب الاعتراف العلمي الحقيقي، فقد قرأ أينشتاين أبحاث مشرفة في ميكانيكا الكم، خاصة ما يتعلق ببنية الإشعاع والطاقة، وكتب عنه قائلاً: "إنه واحد من العلماء القلائل الذين يفهمون نظريتي في النسبية"، ويعد هذا الاعتراف أحد أهم الشهادات في حق عالم عربي في تلك الحقبة. أما في مصر، فكان مشرفة أول من أدخل النسبية إلى المناهج الجامعية، ويذكر أنه كان يراسل أينشتاين حول مسائل فيزيائية دقيقة، ما يعكس مكانته العلمية الدولية. وإذا كانت علاقة مشرفة بأينشتاين تشكل جانبًا علميًا مهمًا، فإنها ـ في بعدها الرمزي ـ تكسر الخطاب الذي يروج لتفوق علمي غربي مطلق، وتؤكد قدرة العقل العربي على المنافسة في أعلى المستويات.

الرحيل الغامض لمصطفى مشرفة في يناير 1950 عن عمر لم يتجاوز 51 عامًا، يثير العديد من الشبهات، فالرواية الرسمية تحدثت عن أزمة قلبية مفاجئة، غير أن الوسط العلمي في مصر لم يتلق الخبر كحدث طبيعي، فالوفاة المبكرة لعالم في كامل نشاطه، يعكف على مشروعات بحثية حساسة، أثارت تساؤلات عديدة، خاصة بعدما قيل عن اختفاء أوراق معينة من مكتبه. ونحن من منظور اجتماعي ـ سياسي، لا يمكن أن نقرأ حادثة كهذه بمعزل عن التحولات الكبرى في المنطقة، مثل صعود العدو الصهيوني كمشروع مسلح بالمعرفة والمخابرات، وبداية صراع إقليمي على التفوق العلمي، ووجود عقول عربية كانت تعد، بحكم أفكارها وطموحاتها العلمية، "أهدافًا محتملة".

ورغم أنه لا توجد وثائق رسمية تثبت أي تدخل خارجي، فإن نمط الاغتيالات الغامضة لعلماء عرب لاحقين فتح الباب أمام فرضيات تضع وفاة مشرفة ضمن سياق أوسع لمحاولات حرمان العرب من امتلاك نخب علمية قادرة على قلب ميزان القوى. هنا ينبغي توضيح نقطة مهمة: إن القول بوجود شبهة لا يعني الجزم، لكنه يعكس قراءة اجتماعية ـ سياسية لبيئة إقليمية مسكونة بصراع على المستقبل، حيث يصبح العقل العربي هدفًا قبل أن يصبح السلاح هدفًا. وفي هذا الإطار تمثل قضية اغتيال العلماء العرب جزءًا من صراع أشمل حول من يملك مشروع المستقبل في المنطقة، فالكيان الصهيوني منذ تأسيسه، سعى إلى بناء قوته على قاعدة "الاحتكار العلمي"، وفي المقابل كان العالم العربي يملك ـ رغم الفقر والتخلف ـ طاقات بشرية قادرة على اختصار الزمن.

لقد كانت رؤية جمال عبد الناصر لاحقًا واضحة: "التحرر الوطني لا ينجح إلا إذا امتلكت الأمة أدوات المعرفة والتكنولوجيا الحديثة"، وقد شكل رحيل مشرفة قبل هذه المرحلة ضربة لرمز كان يمكن أن يكون أحد بناة القاعدة العلمية للدولة الوطنية الحديثة. ومن منظور علم الاجتماع السياسي، فإن غياب حماية مؤسسية للعقل العلمي العربي، وترك العلماء في فراغ بين الاستعمار الخارجي والتنافس الداخلي والإهمال البيروقراطي، خلق بيئة مناسبة لاغتيالات محتملة أو لتصفيات غير مباشرة عبر التهميش والإقصاء.

اليوم وبعد أكثر من سبعين عامًا على رحيله، يظل مصطفى مشرفة شاهدًا على حقيقة جوهرية: أن النهضة العربية ليست حلمًا رومانسيًا، بل مشروعًا قابلًا للتحقق متى توافرت له السيادة العلمية. فسيرة مشرفة ليست مجرد قصة عالم لامع، بل قصة أمة كادت أن تضع قدمها على عتبة التقدم، قبل أن تواجه بقوى لا تريد لها أن تنهض. ففي كل مرة يغيب فيها عالم عربي، يغيب جزء من مشروع تحررنا القومي. إن إعادة قراءة حياة مشرفة اليوم ليست عملاً احتفاليًا، بل ضرورة سياسية لأن معركة العرب على المستقبل لن تحسم بالشعارات، بل بالعقل، وبإحياء إرث الرجال الذين أدركوا مبكرًا أن العلم هو السلاح الوحيد الذي تخشاه كل قوى الهيمنة، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

محمد سيد أحمد مقالات خط أحمر خط أحمر
قضية رأي عامswifty
بنك مصر
بنك القاهرة