محمد عبد اللطيف يكتب حكايات منسية ...بيانات راديو ”اللبنى ”فى حرب أكتوبر


ما زلنا فى الطاحونة ... هنا الحياة بكل مفرداتها ... هنا الحقيقة بدون "تزويق "..هنا الغنى والفقير،المسلم والمسيحى، المتعلم والأمى ..هنا ينصهر الجميع ..هنا تتشكل قواعد العلاقات الانسانية ...هنا البوح بلا حدود وسرد الحكايات بلا تحفظ .
..الطاحونة ليست كما كنت أظن، أنها الوسيلة الوحيدة لاخبارنا بموعد الافطار فى شهر رمضان عبر صفارة الـ "شكمان"أو أن المكان الفسيح أمامها متسعاً لتجمع الناس حول المذياع لمتابعة سير حرب العاشر من رمضان، أو أن باحتها براحاً للبوح بحكايات، تلوكها الألسنة كل يوم، يروونها فى كل تجمع، وأن كل رواية تجد لها جمهور ينحاز لها، على غرار انحياز بعض العائلات لأحد طرفى الصراع فى الملاحم الشعبية، مثل السيرة الهلالية ، حيث تندلع المشاجرات بين الجمهور،عندما ينتصر شاعر الربابة لأبوزيد الهلالى أو الزناتى خليفة .
ففى الطاحونة يستطيع المرء أن يغوص فى أغوار الانسان، ويعرف ما لا تنشره الصحف ولا يبثه المذياع ،يعرف تفاصيل جرائم القتل فى القري التى يفصلنا عنها نهر النيل .. من قتل فلان.. ولماذا قتله ؟ ... يعرف حكايات النسوة حول قصص الزواج والطلاق، يعرف أسرار الخلافات بين أفراد الأسرة الواحدة بسبب الزيجات، لأن فلان ترك ابنة عمه وتزوج من ابنة فلان، وابن فلان أغضب أهله بسبب سيطرة زوجته وأصهاره عليه، أو فلانة عملت لابنها "عمل".
هى تزدحم فى شهر رمضان ،حيث استهلاك البيوت من الدقيق يفوق بقية شهور السنة ، فالبيوت تشبه خلية النحل لتحضير الافطار قبل موعده، فضلاً عن ممارسة الطقوس المعتادة ، مثل عمل الكنافة والفطائر وصناعة الكعك والبسكويت والفايش، كل هذا لم يكن من قبيل الرفاهية وسعة الحال ،انما لأنها عادة أساسية فى المواسم، حيث تقوم الأسر باعداد المخبوزات لبناتهن المتزوجات ،والذهاب بما صنعن الى بيوت أزواجهن مع الـ "نايب"، وكثيراً ما كانت بعض الأسر تستدين لتحضير الـ "نوايب"، بدعوى رفع رؤوس بناتهن فى بيوت أزواجهن، أو أن الأمهات يريدن ذلك ،وفق ميراث العادات السيئة فى مجتمعاتنا،والتى صارت حقوقاً مكتسبة بفعل الرضا عنها، يضاف اليها الذبائح والمخبوزات والحمام وصناعة الحلويات وبقية الأمور التى ترهق الأسر، خاصة الفقيرة ومتوسطة الحال أثناء الزواج.
الطاحونة بها حجرين يعلو كل حجر قمع كبير، تسكب فيه الغلال للطحين،وأحيانا يكون أحدهما لطحن وجرش الذرة" الشامية والرفيعة " فالمجروش علف رئيسي للماشية ،أما المطحون فيستخدم فى خبز الـ "بتاو" ،لأنه أرخص من دقيق القمح وتعيش علي تناوله الأسر التى تغوص فى أعماق الفقر،ورغم فقرهم البين، كانوا يتعففون فيحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ،وكانت كمية الغلال الواردة تشى بالمكانة الاجتماعية والاقتصادية لصاحبها ،غنى أم فقير، وكلاهما الغنى والفقير يدفع رشوة للجالس على القمع ومتلقى الطحين على الأرضية، وكان المصطلح السائد عن الرشوة الـ "بلصة" وهى تزيد وتقل ، حسب كمية الغلال الواردة للطاحونة .
فى حرب أكتوبر انصهر الجميع ، الغنى والفقير ، المسلم والمسيحى ، الغريب والقريب، الكل كان يلتف حول المذياع لسماع ما يطمئنه ،فقد كان المذياع بمثابة البث المباشر من أرض المعركة حيث لا توجد وسيلة اعلامية أخرى يمكن الاستعانة بها، فأجهزة التلفاز والراديوهات عددها قليل ،ولا توجد سوى فى بيوت الأثرياء، أما الصحف فهى لا تأتى الا عصراً ، أى بعد 24 ساعة من طباعتها ، يجلبها عم" رزق " وهو رجل مسن من السنابسة، كان يذهب يومياً الى دشنا لانتظار القطار القادم من القاهرة، وعندما يأتى بالصحف والمجلات الأسبوعية ، يجلس بهم أمام مسجد الدندراوية عل الـ " كولة " فيتوافد عليه قراء الصحف والمجلات "الثوابت"، الشيخ محمد اسماعيل عقارب والشيخ محمد ابراهيم الناظر والشيخ محمد حسين الحوارم والشيخ عبد اللطيف الخولى والشيخ حسن ابراهيم والحاج على حسن زيدان وعدد آخر قليل جداً.
لم يكن مذياع الأزهرى أمام الطاحونة هو الوحيد الذى يلتف حوله الناس فى بلدتنا، حيث يوجد تجمع آخر على الـ " كولة" حول راديو عبدالحميد السباعى وشهرته "اللبنى"، وهذا التجمع أكبر بكثير من تجمع الطاحونة ، لأن الـ "كولة " بمثابة البندر لعائلات الدندراوية ، فهى مركز قضاء الحوائج والمقابلات وشراء المؤن من البقالين،ومحلات التموين كما يوجد بها بيت عبداللطيف أبو حيمر وشهرته عبداللطيف الجمال ، حيث مستودع الجاز، الذى يتم صرفه بالـ "كوبونات " ، أيضاً هى تجمع الباحثين عن يومية عمل، حيث يتوافد المزارعون للبحث عن عمالة أو اعطاء الأجرة ، أو دفع الحساب للجزارين، وغير ذلك من الأمور الحياتية لأبناء الريف ، لذا فان المكان يكتظ يومياً بمرتاديه، حيث الغرز الصغيرة والمخانات، ولأن راديو" اللبنى" هو الأعرق تاريخاً بالنسبة للأهالى ، صاحبته دعابات يتداولها الناس تتعلق بمصداقيته دون غيره من بقية الراديوهات، فكان اذا قال أحد خبراً ما يتعلق بالشأن العام، على الفور تخرج التساؤلات من الأفواه.... الكلام ده جه فى راديو "اللبنى "، لو جه يبقى صحيح ولو مجاش يبقى كدب ، لأن أى خبر أو معلومة لا تأتى من راديو "اللبنى" تبدو فى مخيلة البعض غير صحيحة ، ما أكسب الراديو مصداقية .
بعد سنوات كثيرة من حرب أكتوبر، ذهبت إلى المركز القومى للبحوث الجنائية والاجتماعية، للحصول على بيانات حول الظواهر السلبية فى المجتمع، لاجراء تحقيق عن الثأر وتجارة السلاح فى الصعيد، بينما كنت أقلب فى سجل أرشيف المكتبة عن "كود" البحوث التى أجريت فى هذا الشأن، لفت نظرى عدم وجود أى بيانات عن شهر أكتوبر عام ١٩٧٣، مقارنة بنفس الشهر فى السنوات السابقة واللاحقة ، حيث لا توجد جرائم ، بمعنى أكثر دقة، لا توجد بيانات أو محاضر عن الجرائم المتنوعة لمدة ١٨ يومًا، هى الفترة من ٦ أكتوبر وحتى يوم ٢٣ أكتوبر
تساءلت .. هل سقطت تلك الفترة من السجلات الرسمية ؟.. أم إنها لم تكن مدرجة أمام الباحثين؟.. أم أن وزارة الداخلية أخفت عمدا بيانات الجرائم المعتادة ، مشاجرات ـ سرقة ـ قتل.. إلخ؟.
حملت ما كان يدور فى رأسى من تساؤلات، ألقيت بها أمام الدكتور أحمد المجدوب ـ رحمه الله ـ وكان واحدا من أشهر الباحثين فى العلوم الاجتماعية وتحليل الظواهر الجنائية، إجابته أثارت دهشتى، وحفزتنى على التأمل، قال كلمة واحدة، أغلق بها باب النقاش ، إنها روح أكتوبر.
الكلمة البسيطة فى معناها، تحوى دلالات التلاحم المجتمعى وهو أحد أهم مكونات الشخصية المصرية عبر الأزمنة، فهى تجسد مفهوم التفاعل مع الأهداف الكبرى ، وفى مقدمتها الالتفاف حول الوطن فى لحظة تاريخية فارقة.
إجابة المجدوب أيقظت ذاكرتى وحفزتنى على استدعاء مشاهد كنت أظنها هامشية، فغياب الجريمة وتلاشى المشاحنات من الأشياء المستحيلة فى بعض المجتمعات وفق ظنى، خاصة أننى من أبناء الريف، ولدى دراية كاملة بالمنازعات اليومية التى لا تنقطع، بين الجيران فى الحقول، سواء على أسبقية الرى أو على فصل الحدود بينهم أو بسبب لعب الأطفال، إلى جانب المشاحنات الناتجة عن الموروثات البغيضة، وغيرها من الوقائع التى تحدث، ليس فى بلدتى فقط، بل تحدث يوميا على اتساع الوطن، ويتم التصالح العرفى فيها، أو تدوينها فى دفاتر "العموديات بالقرى والنجوع" أو نقاط ومراكز وأقسام الشرطة على مستوى الجمهورية تساءلت ساخرا.. هل أعلن اللصوص توبتهم فى تلك الفترة؟.. وما علاقة المجرمين بـ"روح أكتوبر"؟، الإجابة ترويها المشاهد على امتداد الخريطة الجغرافية للبلاد ومنها قريتى التى قدمت أروع شبابها شهداء لرفعة الوطن .