الدكتور محمود الحصري يكتب: وادي القرود يفاجئ العالم بمقبرة ملكية جديدة لتحتمس الثاني تخرج إلى النور بعد 3500 عام من الغياب


اكتشاف مقبرة الملك تحتمس الثاني في وادي جبانة القرود غرب الأقصر يمثل إنجازاً أثرياً مذهلاً أعاد إلى النور أسراراً ملكية مدفونة لأكثر من 3500 عام تحت طبقات الرمال والسيول العنيفة، حيث قادت بعثة أثرية مصرية بريطانية مشتركة الكشف الميداني في عام 2022 ضمن أعمال حفريات منهجية في المنطقة الوعرة التي تُعرف بكثافتها الجيولوجية وتاريخها الغني بمقابر نبيلة من الأسرة الثامنة عشرة، مما فاجأ العالم بإعلان رسمي في 2025 بعد سنوات من التحليلات الدقيقة للنقوش واللقى لتأكيد هوية صاحب المقبرة الذي حكم مصر بين 1493-1479 ق.م. وأسس لعصر الإمبراطورية المصرية الجديدة من خلال حملاته العسكرية الواسعة في بلاد الشام وبلاد النوبة.
نقوش حتشبسوت تؤكد هوية الملك الغامضة :
استغرق الإعلان الرسمي ثلاث سنوات بسبب الحاجة إلى دراسات معمقة شملت فحص الأواني المرمرية المنقوشة باسم تحتمس الثاني وألقابه الملكية مثل "حورس القوي"، بالإضافة إلى ذكر الملكة حتشبسوت زوجته وشقيقته في سياق طقوس الدفن، مما يشير إلى دورها البارز في إشراف الجنازة نظراً لصغر سن الوريث تحتمس الثالث البالغ حوالي عامين آنذاك، وهذه الأدلة المباشرة أكدت الملكية الفريدة للمقبرة التي لم تُعثر فيها على المومياء أو التابوت الرئيسي بسبب تدمير السيول المتكررة لأجزاء أساسية، إلا أن شظايا الأواني الفخارية والمرمرية والزخارف الجدارية الباقية رسمت صورة حية للطقوس الجنائزية في ذلك العصر.
نقوش وزخارف تروي رحلة البعث الملكي :
تكشف الزخارف الجدارية المحفوظة جزئياً عن عقائد المصريين القدماء في البعث والحياة الأبدية، حيث تضمنت مقاطع من "كتاب الإمي دوات" أو نصوص الآخرة التي ترتبط بالطقوس الشمسية ورحلة الملك عبر العالم السفلي للاتحاد مع رع، مما يعكس الإيمان بقوة الشمس كرمز للاستمرارية الملكية، ومع ذلك أثرت السيول الغزيرة في الوادي على حالة الموقع بشكل مدمر حيث تفككت طبقات الملاط الملون وانهارت أجزاء كبيرة من الجدران، مما يبرز تحديات الحفاظ على المواقع الأثرية في مناطق عرضة للكوارث الطبيعية ويستدعي استراتيجيات حماية متقدمة باستخدام التكنولوجيا الحديثة مثل الليدار والمسح الراداري.
آخر المقابر الملكية المفقودة من الأسرة الثامنة عشر :
يبرز هذا الكشف كأول مقبرة ملكية تُعزى مباشرة لتحتمس الثاني، الذي كان مقبرته الرئيسية غير معروفة، مقارنة بمقابر ملوك الأسرة الثامنة عشرة الآخرين مثل تحتمس الثالث أو توت عنخ آمون الشهير في وادي الملوك، فيضيف حلقة مفقودة حاسمة في فهم تطور نظام الدفن الملكي قبل ازدهار عصر حتشبسوت وأمنحوتب الثالث، ويكشف عن ممارسات دفن بديلة في وادي جبانة القرود ربما كانت سرية أو مؤقتة لأسباب أمنية أو طقسية، مما يعيد رسم خريطة المقابر الملكية ويفتح أبواباً لأسئلة جديدة حول انتقال السلطة والعلاقات الأسرية في البلاط الفرعوني.
الجدل الواسع بعد اكتشاف المقبرة :
لقد أثار الإعلان الإعلامي جدلاً واسعاً بسبب مبالغات بعض التقارير التي وصفته بـ"أول مقبرة ملكية منذ توت عنخ آمون" متجاهلة اكتشافات حديثة أخرى، إلا أن الواقع العلمي يؤكد أهميته في سياقه الخاص كشاهد نادر على مرحلة انتقالية حاسمة، حيث يوفر بيانات عن الفنون الجنائزية والتكنولوجيا المعمارية في بداية الأسرة الثامنة عشرة، ويبرز عبقرية المصريين في اختيار مواقع دفن إستراتيجية تحمي الملوك من اللصوص والعناصر الطبيعية.
أهمية هذا الاكتشاف في جذب السياحة لمصر والأقصر :
تتجاوز الأهمية الجانب التاريخي ليصبح جسراً بين الماضي والحاضر، إذ يعزز السياحة الأثرية في الأقصر ويفتح آفاقاً لأبحاث متعددة التخصصات تشمل علم الآثار والجيولوجيا والحفظ الرقمي، كما يذكرنا بتراث مصر الغني الذي يستمر في إبهار العالم ويستحق دعماً دولياً للحفاظ عليه أمام التحديات البيئية، مما يجعله ليس مجرد كشف أثري بل إرثاً حياً يروي قصة حضارة بنت إمبراطوريتها على أكتاف ملوك مثل تحتمس الثاني.

.jpg)
















.jpg)
























