الدكتور أحمد عبود يكتب: العبور.. قدر المصريين في الحرب والبناء


منذ فجر التاريخ، كُتب على المصريين أن يكونوا أبناء العبور. عبور من ضفة الخوف إلى ضفة الأمان، ومن زمن الضعف إلى لحظة القوة. لم يكن السادس من أكتوبر عام 1973 مجرد انتصار عسكري حطم أسطورة جيش لا يُقهر، بل كان تجسيدًا لمعنى العبور الذي يسكن في وجدان هذا الشعب منذ أن شق أجداده قناة النيل لتروي الأرض، وبنوا حضارة علمت العالم معنى الإرادة والإبداع.
نصر أكتوبر لم يكن وليد لحظة عابرة، بل ثمرة صبرٍ وإصرارٍ وإيمانٍ بأن المستحيل لا مكان له في قاموس المصريين. كان عبور الجيش المصري قناة السويس كعبور الروح نحو الحرية، وكأن الأرض والسماء والدماء تآلفت في لحظة واحدة لتكتب صفحة الخلود في تاريخ الأمة. كان الجندي المصري يحمل بين يديه بندقية، وفي قلبه إيمان لا يتزعزع بأن الله مع من يدافع عن حقه ووطنه.
لكن الحقيقة الأعمق أن العبور لم يتوقف عند حدود القناة، فكل مرحلة في تاريخ مصر كانت ولا تزال تحتاج إلى عبور جديد. اليوم، لم نعد نحمل السلاح في وجه عدوٍ على الحدود، بل نحمل القلم والعلم والفكر في معركة الوعي والبناء. إننا أمام جسر آخر، يمتد بين ضفتي الجهل والمعرفة، بين التخلف والتطور، بين السلبية والعمل. عبورٌ من الماضي الذي قيدنا، إلى مستقبل نصنعه بأيدينا.
العبور اليوم ليس فقط في المصانع والمزارع والجامعات، بل في عقولنا وقلوبنا. أن نترك ثقافة الشكوى ونبدأ ثقافة الفعل، أن نحول الكلام إلى إنجاز، والنية إلى خطوة، والحلم إلى واقع. فكل مصري يحمل في داخله جنديًا من جنود أكتوبر، ينتظر لحظة استدعاء جديدة ليعبر مرة أخرى، ولكن هذه المرة إلى وطن متطور، متعلم، قوي بالوعي قبل السلاح.
إن عبور أكتوبر سيظل رمزًا خالدًا في ذاكرة الأمة، لكنه أيضًا دعوة مفتوحة لاستمرار العبور، فكما عبرنا القناة بالسلاح، يجب أن نعبر الآن بسلاح العلم والإنتاج والإرادة. مصر لا تعرف التوقف، لأنها خُلقت لتعبر، لتتحدى، ولتنتصر مهما كانت الصعاب. فالعبور ليس حدثًا في التاريخ، بل قدرٌ مكتوب على المصريين إلى الأبد.