الدكتور سامح أبوخشبة يكتب: حينما كانت الحياة صادقة


حينما كنا بسطاء نامت قلوبنا مطمئنة، لا تشكو ازدحام الأحلام، ولا ضجيج التنافس، ولا رهق الركض خلف ما لا نحتاج . فتعلّمنا بصدق، وعملنا بحب، وأحببنا بضمير.
في ذلك الزمان، لم نكن نعلم أننا نعيش أروع ما في الحياة. كنا ننهل من دفء اللحظة دون أن نتساءل عن الغد، وكان كل شيء فينا صادقًا وعفويًا، كما الماء حين يروي العطش دون أن نلتفت إلى مذاقه. كانت الحياة حينها تمضي بهدوء، كنسمة صيف، لا تكدّرها مقارنات، ولا تفسدها وفرة الخيارات.
تعلمنا بالطبشور، وبطين الأرض، تعلمنا من أصوات المعلمين الصادقة الرنانة، من دفاترنا البالية التي حملت حلمنا الأول، وأحلامًا كثيرة لم نكن ندري أننا نسطرها. القلم الذي أرهقته الكتابة، صاحبنا حتى نهاية السنة، وكأنه يقول: "حتى أنا أصيل". لم يكن مجرد أداة، بل امتدادًا لروح كانت تؤمن أن للعلم قدسية لا تُمس، وللكلمة وزنًا لا يُقدَّر.
كان الإنسان البسيط ملاذًا، تجلس إلى جواره فتشعر بأن الأرض ما زالت بخير، وأن الطيبة فريضة، وأن الحياة ليست معركة. وكل شيء بسيط، كان يحمل في داخله عمقًا لا يُرى، مثل قُبلة أم، أو دعوة من القلب، أو قطعة خبز تُقسم بمحبة.
واليوم… لماذا نُتّهم الحاضر؟ ولماذا تتلبسنا الرجفة حين يمر شريط الذكريات أمام أعيننا ؟ لماذا كلّما تذكّرنا كتابًا قديمًا، أو كشكولًا مرسوم الحواف، أو قلمًا كنا نخط به أولى سطورنا، سال الدمع في عيون القلب، وارتجف الحنين؟
لأن الحياة كانت صادقة. من قدَّم العلم، قدمه بصدق، ومن تلقّاه، تلقّاه بشغف.
حتى صانع الخبز كان أصدق إنسان ، وأطيب مَن قدّمه ، لأنها كانت ( الأم )... كانت تصنعه بيديها، وتقدّمه بصدق، فأكلناه واستشعرنا فيه طَعم المحبة ودفء البيت.
كانت الأشياء نادرة، فكانت لكلٍّ منها قيمة. لم تكن تخجل أن تُحب قلمك، أو تشتاق إلى صفحات كتابك ورسوماته البسيطة، أو تعتزّ بحذائك القديم . أما اليوم ، وبكل أسف ، فقد غزتنا الوفرة حتى غابت القيمة . أصبحت تملك الكثير، وتشعر بالقليل . تأكل كثيرًا، ولا تتذوق. تلبس كثيرًا، ولا ترتاح . تمتلك قنوات تليفزيونية لا تُعد، وتفتقد برنامجًا أو مشهداً يلامس روحك. لديك ألف طريق، ولا تصل مطمئنًا. منزلك متسع ، لكنك لا تشعر بالسكن . قلبك مزدحم، لكنك لا تجد من تُصغي إليه حقًّا. كل هذا لأن الصدق قد غاب في زحمة الحياة المعقّدة.
كثرت القوانين، وقلّ اليقين. كثر التعليم، وغاب التطبيق. تشعبت المعرفة، وذابت الحكمة. أصبح كل شيء كثيرًا، حتى غرقنا في الكثرة ، وفقدنا البساطة.
أصبح الناس يتفاخرون بالتعقيد، ويحسبون الرقي في الازدحام. يكدّسون، ويتباهون، ثم يشكون أنهم لا يشعرون بشيء. نسينا كيف كان البسيط يربينا، ويهذبنا، ويعلمنا كيف نعيش. نسينا طعم الأشياء حين كانت قليلة ونقية ، وكيف كانت القلوب عامرة رغم قلة اليد .
نحن لا نلعن الحاضر، لكننا نتوق (نشتاق بشدة) إلى ذلك السلام الذي كنا نعيشه. نتوق إلى حارة بها صديق واحد مخلص ، إلى بيت لا يضجّ بالأجهزة ، بل يهمس بدفء العلاقات ، إلى حديث هادئ مع أب أو أم ، لا يُقاطعه إشعار هاتف ، ولا ينتهي بمكالمة عابرة .
عذرًا يا من تسكنون هذه الأرض… كفانا تعقيدًا، لتعود السعادة.
فالسعادة… في البساطة.