مقالات

الدكتور محمد سيد أحمد يكتب: سورية بين السقوط والتحول !!

خط أحمر

وصلتني رسالة مطولة من أحد أصدقائي السوريين المقربين المقيمين بدبي، وهو باحث وأكاديمي مرموق، رسالة لا يمكن لأي باحث في علم الاجتماع السياسي العربي أن يتجاهلها حتى ولو كانت هناك شكوك حول مصدرها، وهي المقابلة النادرة والمثيرة مع اللواء علي المملوك - مدير مكتب الأمن الوطني السوري سابقًا – التي أجراها معه الباحث والإعلامي الروسي دينيس كوركودينوف - المدير العام للمركز الدولي للتحليل السياسي والتنبؤ -، وبقراءة نص المقابلة يتسرب بداخلك شعور أن التاريخ يفتح دفاتره القاسية ليملي علينا وقائع ما جرى في السنوات الأخيرة من عمر الدولة السورية. فالمقابلة – إن كانت قد تمت بالفعل - ليست مجرد كشف لأحداث السقوط في ديسمبر 2024، بل هي وثيقة عميقة تكشف حجم التآمر والخذلان، داخليًا وخارجيًا، الذي تعرض له الرئيس بشار الأسد، الرجل الوطني الذي وقف في وجه أخطر حرب كونية على دولة عربية منذ عقود.

فمنذ السؤال الأول حول "أسباب سقوط نظام الرئيس بشار الأسد"، يضع المملوك إطارًا عامًا يوحي بأن الانهيار كان حصيلة تراكمية، لكن القراءة العميقة تؤكد أن النظام لم يسقط لولا تفكك الحلقة الإقليمية والدولية التي ظلت تحيط بالرئيس الأسد طوال سنوات الحرب. نعم، كانت هناك هشاشة اقتصادية، وصراع داخلي على النفوذ، وتراكم فساد، لكن الدولة - حتى لحظة السقوط - كانت قادرة على الصمود لولا القفز المفاجئ للحلفاء من المركب السوري مع اشتداد العاصفة.

يوم السابع والثامن من ديسمبر، يوم سقوط دمشق، يصفه المملوك بعبارات تقنية: "انهيار دفاعات، غياب التنسيق، وتقدم خاطف للمعارضة المسلحة". لكن القارئ القومي يدرك أن الجيش لا ينهار فجأة إلا إذا تراجعت المنظومة الداعمة سياسيًا ولوجستيًا ومعلوماتيًا. لقد تركت دمشق بلا غطاء، بلا عمق إقليمي، وبلا شبكة أمان دولية.

المفاجئ في شهادة المملوك هو وضوحه تجاه روسيا وإيران. فهو يؤكد أن موسكو "لم تساعد على السقوط لكنها لم تتدخل بما يكفي"، وهي عبارة تختصر الكثير: روسيا التي حسمت معارك كبرى كحلب ودير الزور وغوطة دمشق، وقادرة على قلب الموازين في ساعات، اختارت الحياد البارد في اللحظة الحاسمة. خشيت التورط، وحسبت مصالحها بميزان دقيق، فتركت دمشق تواجه مصيرها.

أما إيران، الحليف العقائدي المفترض، فيصورها المملوك كقوة حاضرة وغائبة في آن واحد: "دعم محدود، فساد داخل الخط الائتماني، عناصر مخترقة تتسرب عبرها الإحداثيات إلى العدو الصهيوني، ومستشارون يسيئون إلى صورة الحضور الإيراني". والأخطر، وفق شهادته، "أن الرئيس الأسد نفسه كان يصر على ضبط التوازن مع طهران رغم علمه بالاختراقات"، ما يكشف حجم الضغط السياسي الذي وجد نفسه فيه وهو يحارب وحيدًا.

ويكشف المملوك أن انهيار الدولة لم يكن نتيجة قوة الخصم كما يعتقد البعض، بل نتيجة: "خلل في إدارة المعلومات، وتقارير متأخرة، ونفوذ شخصيات مثل لونا الشبل التي لعبت دورًا إعلاميًا وسياسيًا تجاوز حدود وظيفتها وأضر بعمل المؤسسات". والحادث الذي أنهى حياتها بقي، وفق المملوك: "غامضًا، لكنه يشير إلى مناخ داخلي مضطرب استغلته قوى داخلية وخارجية لإضعاف الرئيس".

وحين يتحدث عن سقوط دمشق، وعن سؤال المسؤولية، يعترف بدوره ولكنه يؤكد أن "الهشاشة كانت تراكمية"، وهو اعتراف مسؤول لكنه يؤكد أيضًا أن الدولة تعرضت لحرب استخباراتية واقتصادية وسياسية هائلة لم تواجه بمستوى الدعم المطلوب من الحلفاء.

غير أن أكثر الأسئلة حساسية كان حول إمكانية عودة الرئيس بشار الأسد. هنا يبتسم المملوك للمرة الأولى، ويقول: "لنشوف شو رح يصير .. كل الاحتمالات مفتوحة"، تلك ليست جملة عابرة، إنها إعلان بأن الأسد ما زال حاضرًا في الوجدان الشعبي، وفي الحسابات السياسية، وربما أيضًا في ترتيبات المستقبل. فالتاريخ العربي مليء بقادة خرجوا من المشهد ثم عادوا لأن شعوبهم اكتشفت حجم المؤامرة التي أسقطتهم.

أما النظام الجديد بقيادة أبو محمد الجولاني أو أحمد الشرع، فيراه المملوك: "هشًا، فاقدًا للعمق الاجتماعي، عاجزًا عن معالجة قضية الحريات، عاجزًا عن إدارة الأقليات، محطمًا اقتصاديًا، ومعتمدًا على دعم دولي مشروط يقضم سيادته". وهذا التقييم يجعل السؤال الأكبر يطل بقوة: هل هذا النظام قادر على الاستمرار، أم أن التاريخ سيعيد ترتيب المعادلة السورية؟

سورية اليوم ليست ساحة صراع محلي أو إقليمي فقط، بل ساحة اشتباك بين القوى الكبرى: الولايات المتحدة، تعمل على إحكام السيطرة على شرق الفرات ومنع أي عودة لنظام وطني قوي، وتسعى لإبقاء سورية في حالة توازن هش يخدم مصالحها. روسيا، رغم انسحابها النسبي، لا يمكنها ترك سورية نهائيًا لأنها نقطة ارتكاز في المتوسط. قد تعود بقوة إذا وجدت فراغًا أو تهديدًا لمصالحها البحرية والعسكرية. الصين، تنظر إلى سورية كجزء من مشروع "الحزام والطريق"، وقد تتدخل اقتصاديًا إذا استقر الوضع السياسي. الاتحاد الأوروبي، لا يملك قدرة التأثير المباشر، لكنه يضغط اقتصاديًا وسياسيًا عبر أدوات "الشرعية الدولية".

ومع هذا الصراع، تبدو أمام سورية أربعة سيناريوهات: الأول هو عودة الدولة الوطنية عبر شخصية جامعة قد يكون من بينها بشار الأسد نفسه. الثاني انفجار اجتماعي - اقتصادي إذا فشل النظام الجديد في إدارة الأزمات. الثالث صفقة دولية كبرى تعيد رسم خارطة السلطة. الرابع عودة التوازن الإقليمي عبر تحالف جديد يعيد دعم الدولة المركزية.

لكن تبقى سورية أكبر من أن تحكم بقرار خارجي، وأعمق من أن تختصر في نظام أو معارضة، وما قاله المملوك عن احتمالية عودة الرئيس الأسد ليس توقعًا سياسيًا فقط، بل تعبير عن وعي عميق بأن الرجل الذي صمد عقدًا كاملاً لم يكن جزءًا من المؤامرة بل كان هدفها الأساسي. لذلك يمكننا القول أن سورية لم تنته، ودمشق لا تهزم، والرئيس بشار الأسد، مهما ابتعد عن المشهد، يبقى الرقم الصعب الذي لم تستطع الحرب، ولا الحصار، ولا الخذلان، أن تلغيه من وجدان السوريين والعرب، والتاريخ لم يقل كلمته الأخيرة بعد، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

الدكتور محمد سيد سورية بين السقوط والتحول خط أحمر
قضية رأي عامswifty
بنك مصر
بنك القاهرة