الدكتور محمد سيد أحمد يكتب: مكانك في القلوب يا جمال !!


مرت علينا الأسبوع الماضي ٢٨ سبتمبر الذكرى الخامسة والخمسون لرحيل رجل عظيم هو الزعيم جمال عبد الناصر الذي سيظل اسمه محفوراً في ذاكرة الأمة العربية باعتباره رمزاً للكرامة الوطنية، وقائداً حمل هموم الفقراء والكادحين من أبناء مصر، وصوتاً مدوياً في مواجهة الاستعمار والهيمنة على مستوى العالم، لم يكن عبد الناصر مجرد رئيس لدولة، بل كان مشروعاً للتحرر والعدالة الاجتماعية، امتد أثره إلى خارج حدود مصر ليصل إلى شعوب تناضل من أجل الحرية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وقد تميزت مسيرته السياسية والإنسانية بنزاهة استثنائية ونظافة يد لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلاً، وهو ما جعل صورته تزداد نقاءً مع مرور الزمن.
فمنذ قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، رفع عبد الناصر راية العدالة الاجتماعية، مؤمناً بأن قوة مصر الحقيقية تكمن في شعبها، وخاصة الطبقات الفقيرة والمهمشة، فجاءت سياساته لتعكس هذا التوجه، حيث أصدر قوانين الإصلاح الزراعي التي أنهت الإقطاع ووزعت الأرض على الفلاحين، وفتح أبواب التعليم المجاني أمام أبناء البسطاء، ووسع قاعدة الطبقة الوسطى من خلال التوظيف الحكومي والتصنيع الوطني، كما أنشأ منظومة واسعة من الخدمات الصحية والتعليمية، ليضمن أن يحصل كل مواطن على نصيب عادل من خيرات وطنه، لقد كان عبد الناصر يدرك أن بناء مجتمع عادل هو السبيل لبناء دولة قوية قادرة على مواجهة التحديات.
ولم يكن اهتمام عبد الناصر منصباً على الداخل فقط، بل تجاوز ذلك إلى القضايا القومية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي اعتبرها "قضية العرب المركزية"، فقد خاض حرب ١٩٥٦ ضد العدوان الثلاثي دفاعاً عن كرامة الأمة وحقها في السيادة بعد قرار تأميم قناة السويس، كما لعب دوراً محورياً في دعم المقاومة الفلسطينية سياسياً وعسكرياً، واحتضن منظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها، وقدم لمشروع التحرر الفلسطيني غطاءً عربياً واسعاً، كان يرى أن تحرير فلسطين ليس مهمة الفلسطينيين وحدهم، بل واجب قومي على كل العرب.
لقد امتد تأثير عبد الناصر إلى ما وراء الحدود العربية، إذ ارتبط اسمه بحركات التحرر الوطني في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فقد دعم الثورة الجزائرية بالسلاح والمال والإعلام، واحتضن قادتها حتى تحقق الاستقلال عام ١٩٦٢، كما ساند حركات التحرر في الكونغو وناميبيا وأنجولا وغيرها من الدول الإفريقية، وأقام مع الزعيمين جوزيف تيتو (يوغوسلافيا) وجواهر لال نهرو (الهند) حركة عدم الانحياز، لتكون مظلة عالمية للدول الساعية إلى الاستقلال عن فلك القوى العظمى، وبذلك أصبح عبد الناصر صوت المستضعفين والمظلومين في مواجهة الاستعمار والإمبريالية.
وسط كل هذا الدور التاريخي، تظل نزاهة جمال عبد الناصر أبرز ما يميز شخصيته، فبعد رحيله عام ١٩٧٠، تشكلت لجنة لحصر ممتلكاته، فجاءت النتيجة لتكشف عن حياة زهد وبساطة، لم يجدوا في ذمته سوى مرتب شهري قدره ٥٠٠ جنيه، وبدلات ١٢٥ جنيهاً، وصافي مرتب ٣٩٥ جنيهاً و٦٠ قرشاً و٧ مليم، أما ممتلكاته الشخصية فكانت محدودة للغاية، عشرة بدل من صوف غزل المحلة، وثمانية أحذية مصرية، وثلاث ماكينات تصوير، وبعض الكرافتات، ووثائق تأمين بسيطة، وسيارة أوستين قديمة كان يمتلكها قبل الثورة، ومبلغاً نقدياً لا يتجاوز ٨٤ جنيهاً، لم يمتلك عقارات ولا قصور، وكان مسكنه ملكاً للدولة وأُعيد إليها بعد وفاته، حتى الشاليه الذي كان يستأجره بالإسكندرية أُعيد للدولة.
هذه البساطة المدهشة لرجل حكم مصر ١٨ عاماً، وخاض حروباً كبرى، وقاد مشاريع قومية ضخمة، تضعه في مكانة فريدة بين زعماء العالم، ولعل أبلغ شهادة جاءت من رئيس اتحاد المصارف السويسرية، الذي قال للدكتور علي الجريتلي، لقد أرهقتنا المخابرات الأمريكية والإسرائيلية في البحث عن أرصدة لعبد الناصر، فلم نجد شيئاً.
لم يكن عبد الناصر يكتفي بنظافة يده الشخصية، بل كان حريصاً على أن يبعد عائلته عن أي شبهة، فعندما حاول رجل الأعمال عبد اللطيف أبو رجيلة تعيين والد عبد الناصر بعد تقاعده براتب ضخم وسيارة فاخرة، رفض عبد الناصر بشدة وقال لوالده، يا والدي، أنت لا تملك خبرة في مجال النقل، ولكنهم يريدون شرائي عن طريقك، هكذا كان يتعامل مع أي محاولة لاستغلال اسمه أو منصبه.
حتى في سنوات "الردة" حين حاول البعض التشهير بذمته المالية في عهد أنور السادات، شُكلت لجان تحقيق على أعلى مستوى، ولم تجد أي دليل يطعن في نزاهته، وظل اسمه نقياً كرمز للنزاهة والطهارة.
رحل جمال عبد الناصر جسداً، لكن بقي إرثه حياً في وجدان الشعوب العربية والعالم الثالث، لقد جسد قيم الكرامة والعدالة والنزاهة، وربط بين التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، عاش بسيطاً، ومات وهو لا يملك شيئاً من متاع الدنيا سوى حب شعبه وإيمانه برسالته.
رحم الله الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، الذي ظل رمزاً للفقراء والمستضعفين، وسنداً لحركات التحرر في العالم، ومدافعاً صلباً عن القضايا العربية وعلى رأسها فلسطين، لقد أثبت أن القيادة الحقيقية ليست في تراكم الثروات ولا في بناء القصور، بل في النزاهة والإخلاص والعمل من أجل الناس، الذين أحبهم فأحبوه، وظل مكانه في قلوبهم، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم/ د. محمد سيد أحمد