خالد السيد يكتب .. التداخل بين التحكيم والقضاء الدوليين


اهتمت الدول بالتحكيم لما تضمنه من ميزات ولقد سبقت الدول الأوروبية في الأخذ به باعتباره نظاما رديفا للنظام القانوني ، كما ساهمت به الدول العربية ، ولا يكاد يخلو قانون من إفراد فصل للتحكيم ، وبعض الدول تفرد له قانونا مستقلا. والتحكيم الدولي هو ذلك الإجراء أو تلك الوسيلة التي يمكن بواسطتها التوصل إلى تسوية سلمية للنزاع الدولي من خلال حكم ملزم تصدره هيئة تحكيم خاصة يختارها أطراف النزاع ، وانطلاقا من مبدأ تطبيق القانون واحترام قواعده .
والتحكيم الدولي ، بهذا المعنى له خصائصه المميزة التي نذكر منها :
أولا : إن القرار الصادر عن هيئة التحكيم الدولية ( محكم واحد أو أكثر ) لا يعتبر قرارا عاديا وإنما هو حكم يقرر حل النزاع عن طريق تطبيق قواعد القانون الدولي العام أو قواعد العدل والإنصاف أو أية قواعد قانونية أخرى يرتضيها النزاع ويطالبون هيئة التحكيم بتطبيقها .
ثانيا : إن القرار الصادر عن هيئة التحكيم هو قرار ملزم بالضرورة لأطراف النزاع ، ما لم يكونوا قد اتفقوا صراحة – في اتفاق أو مشارطة التحكيم – على خلاف ذلك .
ثالثا : أن الدول عادة ما تحدد – على سبيل الحصر – الموضوعات التي يمكن أن يكون النزاع بشان أي منها محلا للتحكيم ، مستثنية من ذلك كل ما يتعلق بالاستقلال السياسي والشرف الوطني والمصالح الحيوية ، وكذا المسائل التي تدخل ضمن نطاق اختصاصها الداخلي ومع ذلك ، فالمشاهد أنه لا توجد قاعدة عامة في هذا الشأن ، لأن المعول عليه في التحليل الأخير هو إرادة الدول المتنازعة ذاتها وتكييفها لأهمية النزاع القائم بينها ، ولذلك فكثيرا ما نجد نزاعا دوليا معينا قد عرض على محكمة تحكيم دولية للفصل فيه ، على الرغم من تعلقه بالمصالح الحيوية والاستقلال السياسي لكل أو لأحد أطرافه ، ولعل المثال النموذجي الذي يمكن أن يشار إليه تدليلا على مصداقية هذا الاستنتاج هو ذلك المتعلق بتحكيم الألباما الشهير عام 1872 بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ، حيث كان أصل النزاع بين الدولتين متعلقا أساسا بموقف سياسي اتخذته الدولة الأولى ( بريطانيا ) تجاه الصراع في الحرب الأهلية الأمريكية .
والتحكيم الدولي نوعان : التحكيم الاختياري والتحكيم الإجباري ، ففي حالة النوع الأول يكون لكل دولة الحق في قبول أو رفض اللجوء إلى التحكيم لتسوية النزاع ، أما في حالة النوع الثاني – التحكيم الإجباري – فإن الدولة متى وافقت – سواء بمقتضى اتفاقات خاصة أو بمقتضى نصوص معينة ترد ضمن اتفاقات عامة – على قبول اللجوء إلى التحكيم بالنسبة لطائفة معينة من المنازعات لفضها سلميا فهنا لا يكون لها أن ترفض اللجوء إلى التحكيم في حالة نشوب نزاع مع دولة أخرى متى كان هذا النزاع داخلا ضمن طائفة المنازعات التي سبق الاتفاق على تحديدها .
القضاء الدولي : ذلك الإجراء الذي يتم بموجبه الفصل في نزاع دولي عن طريق جهاز دولي دائم مختص بإدارة العدالة الدولية ، وذلك بموافقة أطراف هذا النزاع ومن خلال تطبيق قواعد القانون وباتباع نظام معين للإجراءات .
ويمكن القول بأن فكرة القضاء الدولي بهذا المعنى قد تداخلت إلى حد كبير وحتى قيام عصبة الأمم مع فكرة التحكيم الدولي ، وليس أدل على ذلك من حقيقة أنه عند إنشاء المحكمة الدائمة للعدل الدولي عام 1920 والتي تعتبر في نظر غالبية الفقه وبحق أول تجسيد حقيقي لفكرة القضاء الدولي الدائم ، كان من بين الأسماء التي اقترحت لها اسم محكمة العدل التحكيمي .
والواقع أن مثل هذا التداخل لا يزال قائما إلى اليوم ، حتى إن بعض الكتابات درجت على عدم التمييز بين القضاء الدولي والتحكيم الدولي ونظرت إليهما على أنهما مترادفتان ، وذلك على خلاف الحقيقة ، فالثابت أن التحكيم الدولي يتميز عن القضاء الدولي من عدة نواح :-
فمن حيث النشأة التاريخية ، يلاحظ أن التحكيم الدولي يضرب بجذوره في أعماق التاريخ البشري ، حيث أن القضاء الدولي لم يظهر كمصطلح قانوني إلا في نهايات القرن التاسع عشر كما أنه لم يظهر كنظام مؤسس إلا في أعقاب الحرب العالمية الأولى بقيام المحكمة الدائمة للعدل الدولي .
كما يتميز الاصطلاحان أحدهما عن الآخر من حيث الدور الذي تلعبه الإرادة المشتركة لأطراف النزاع ، ففي ظل نظام التحكيم الدولي تتجلى هذه الإرادة في مختلف مظاهرها ، أما في ظل نظام القضاء الدولي – والقضاء عموما – فإن دور هذه الإرادة ينتهي عند لحظة الموافقة عند عرض النزاع على المحكمة الدولية المختصة ، التي هي منشأة أصلا قبل نشوب هذا النزاع والتي يكون لها بموجب دستورها أو نظامها الأساسي قانونها الذي تطبقه وقواعد الإجراءات التي تتبعها .
يتميز القضاء الدولي عن التحكيم الدولي من حيث إن الأولى يقوم على وجود أجهزة دائمة لا يرتبط وجودها بتوقيت حدوث النزاع ، أما التحكيم الدولي فهو – كقاعدة عامة – ذو طابع مؤقت حيث إن الأصل بالنسبة لمحكمة التحكيم أنها تشكل للفصل في نزاع معين ثم تنفض إثر ذلك .
يختلف الاصطلاحان ، كذلك من حيث دور كل منهما في إنشاء وتطوير القواعد القانونية فالثابت أن القضاء الدولي يسهم بدور أكبر في هذا المجال من خلال ما يرسيه من قواعد وسوابق ، أما التحكيم الدولي فإن دوره في هذا المجال يكون بدرجة أقل ويتحقق بشكل مباشر من خلال الإسهام – على المدى البعيد – في تكوين القواعد القانونية العرفية ، أو في الكشف عنها .
ومع ذلك فهناك سمات عديدة تجمع بين التحكيم الدولي والقضاء الدولي : فكل منهما يعد وسيلة قانونية لتسوية المنازعات الدولية سلميا ، ومن ناحية ثانية يلاحظ أن كلا من التحكيم الدولي والقضاء الدولي يفصل في النزاع المطلوب عن طريق إصدار حكم ملزم وبات ونهائي كقاعدة عامة ، ومن ناحية ثالثة فإن كلا منهما يقوم – من حيث المبدأ – على فكرة القبول الاختياري من جانب أطراف النزاع . ، والدول عادة تفضل اللجوء إلى التحكيم الدولي على اللجوء إلى القضاء الدولي .
ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها : أن اللجوء إلى التحكيم عادة ما يكون ميسورا مقارنة باللجوء إلى القضاء ، حيث إن هذا الأخير يتطلب شروطا معينة لإمكان التقاضي أمامه ، كذلك هناك حالات تكون فيها بعض المنازعات الدولية غير قابلة للعرض أمام القضاء الدولي نظرا لأن أحد أطراف النزاع ليس له حق التقاضي أمام محاكم هذا القضاء ( كحالة نزاع طرفاه دولة من جانب وشركة أجنبية من جانب آخر ) ، كما قد تلعب طبيعة النزاع دورها في تفضيل إحدى هاتين الوسيلتين على الأخرى ، فالمشاهد في ضوء الخبرة التاريخية أنه كلما كان النزاع ذا طابع فني كان من الملائم حله عن طريق التحكيم لا القضاء .