ليس هناك أعظم من أن تكون من قرية عظيمة لها تاريخ ، فهذه القرية هي قرية بهوت إحدى قري محافظة الدقهلية.

فقد تحدث عن شجاعة فلاحيها الكثير من الشعراء من قبل، ولكن اليوم اندهشت كثيرا عندما ذهبت انا (محمد محفوظ) بصحبة أبنائي إلى المسرح العائم بالمنيل بالقاهرة، فبمجرد دخولنا وجدنا لافته مكتوب عليها: بهوت على بعد 50 مترا ، وبعدها لافتة أخرى مكتوب عليها: أهلا بكم في بهوت وإذ نحن أمام إعلان لمسرحية (ياسين وبهية) للشاعر نجيب سرور، بدأت المسرحية ؛ ومعها بدأ القلب يدق، وبخاصة عندما هم الممثل الذي يجسد دور ياسين يقول :
"أقص عن بهوت
أقص عن ياسين
أقص عن بهية"

وهنا بدأت الملحمة ، ملحمة وطنية أصيلة ، تخلد دور فلاحي وأبناء بهوت في حب الوطن ، وقام كل ممثل على خشبة المسرح يبدع في دوره وكأنهم بالفعل من بهوت، فهذا هو حازم القاضي الذي يجسد دور ياسين، كان بالفعل فارع العود كالنخلة الشامخة وعريض المنكبين كالجمل الصامد وهو ما يرويه نجيب سرور عن ياسين

"والناسُ في بهوتْ
كانوا رقاقاً مثلما أوراقِ توتْ
وليِّنينَ كالرُّطبْ
وهادئين كالحمامْ
وطيبين مثل أرضِ مصْرْ
ورائقينَ مثلَ ماءِ النيلْ
وناعمينَ كالنسيمِ في أبريلْ!"

أبدع حازم القاضي في دوره وأدائه لدرجة أن تنسى اسمه الحقيقي ويرسخ في ذهنك أنه ياسين،
أما بهية والتي اشتق اسمها من (بهوت) والتي تجسد بالفعل بهوت قام بدورها الممثلة المبدعة والرائعة ايمان غنيم التي قامت بدور البنت الفلاحة التي عاشت بالفعل في بهوت، وربما تفوق الكثير من الفتيات اللاتي يعيشن في القرية ذاتها.

لقد أبدعت حقا بأدائها الدرامي الرشيق ، ففي كل لحظة تنظر لها لا تستطيع أن تبعد عينيك عنها من قوة اتقانها لدور بهية التي تمثل كل فتيات مصر الشامخات فقد أتقنت أيمان الدور بشكل يثبت أننا نمتلك جيلا جديدا موهوبا قادرا على التحدي والنجاح وإثبات الذات.

أما الممثلة آيه أبوزيد والتي كانت حدوتة مصرية في المسرحية بكل تفاصيلها عندما تراها خارج المسرح ترى فتاة صغيرة في السن جميلة ووديعة تشعر بأنها جاءت مع إحدى زميلاتها لمشاهدة العرض بالمسرح لا للتمثيل ، إلا وأنك وإن وجدتها عالمسرح فتشعر بأنك ترى شخص مبدع لم ترى في ابداعه أحد
شخص قادر أن يتفن دور الأم بكل تفاصيله رغم صغر سنه
شخص ترى فيه دون مبالغة ابداع سميحة أيوب بعظمتها واتقان سهير المرشدي بقدرها
شخص تشعر وكأنك أمام غول تمثيل لا يحتاج لمخرج يقوم بتوجيهه ،ولا لملقن يقوم بتلقينه
نعم لا أبالغ حينما أقول أن الفنانة الشابة آيه أبوزيد استطاعت أن تقوم بدور أم بهية وتجسد المرأة البهوتية بكل تفاصيلها
عاشت أفراحها وأحزانها في مشهد واحد .

يستمر عرض المسرحية ومعها يستمر الشعور بالفخر بقريتى بهوت وفلاحيها، ويستمر أيضا الحزن على حال ياسين وبهية ومعها أيضا يستمر الضحك عندما يتحدث الشيخ اسماعيل أحد أفراد قرية بهوت والتي قام بدوره الممثل الصاعد سمير عوض والذي استطاع أن يخطف الاضواء بخفة ظله ليجسد في المسرحية دور الضاحك الباكي، ولما لا وهو ابن المدينة الباسلة بورسعيد التي أسرت أهلها بجميل صنعهم وأبكت أعداءها بفداء أبناءها .

وبعد انتهاء هذا العرض المسرحي المبهر كنت في غاية الشغف والشوق لمعرفة مخرج هذا العمل الذي ما سرعان ما قرأت اسمه على أفيش المسرحية والذى يدعى يوسف مراد منير، تخيلت شخصيته بأنه كبير السن وربما عاصر الشاعر الكبير نجيب سرور، ولكن كانت المفاجأة الأخرى وإذ هو شاب صغير السن حديث التخرج ولكنه بأبداعه هذا كان في نظري كبير المقام ... كبير الموهبة ... فنان مبدع وصاحب حس عال على خشبة المسرح لأنه وبجانب إخراجه للعمل قام بدور والد بهية ليكشف لنا عن موهبة فنية أخرى تضاف لموهبته التي لم تأت من فراغ

فهي موهبة تحملها الجينات المصرية الخالصة فهو ابن لأسرة مصرية فنية عريقة فالأم الراحلة العظيمة الفنانة فايزة كمال والأب الفنان والمخرج الكبير مراد منير متعه الله بالصحة والسعادة ،ضف على ذلك من مفاجآت هذا العرض المسرحى الرائع الممثلة الشابة جميلة الملامح والروح الرائعة في الأداء والبساطة ليلى مراد منير شقيقة يوسف والتي كانت تقوم بدور الراوي لتكتشف بعد الحفل أنها أخت مخرج المسرحية يوسف وابنة الرائع مراد منير.

أيضا كان هناك شخصية المجذوب وهو الممثل حسام حسن الذي أتقن دوره لدرجة أنك تشعر بأن مخرج العمل ذهب إلى قرية بهوت وأتى بفرد من أبنائها ليقوم بهذا الدور.

حقا أنها المتعة والفخر بعينه فكل شيئ على خشبة المسرح يوحى بأنك تعيش كل أحداث (بهوت) التاريخية في عمل مسرحي متكامل الأركان ، كل أطرافه من صفاف المبدعين سواء أكانوا ممثلين أو فرق العمل في الكواليس من مهندس ومنفذي الديكور أو مؤلف الموسيقى التصويرية ومعه الفنان فتحي ناصر صاحب الصوت الندى والذي جسد هو الاخر بلحنه دورا كبيرا ومؤثرا في العرض فكان صوته بمثابة ترجمة لكافة أحداث ومشاهد هذا العرض المبهر.

وهنا بعد انتهاء العرض لم أتمالك نفسي ولم أشعر سوي بأنني أصعد على خشبة المسرح لأعلن للحضور ولكل فريق العمل أنني من هذه القرية العظيمة التي تحكي عنها المسرحية وهي قرية بهوت.

ولا يفوتني ختاما أن اتقدم بالشكر الوفير لوزارة الثقافة المصرية وقياداتها وأخص بالشكر مدير مسرح الشباب الفنان المبدع سامح بسيوني الشخص الدؤوب والذي يسعى دائما لتوفير مناخ النجاح للجميع لتقديم كل ما هو مفيد لجمهور المسرح ، شكرا سامح بسيوني لإعطاءك الفرصة لهذا الجيل الجديد المبدع حقا ليعلن بأن مصرنا تزخر بالمواهب وأن بلدنا قادر على انجاب أجيال من العباقرة المبدعين يقدمون فنهم في كل زمان ومكان.

أيضا الشكر موصول للمخرج العبقري الأستاذ الكبير خالد جلال رئيس قطاع شئون الإنتاج الثقافي والقائم بأعمال رئيس البيت الفني للمسرح والذي قام بتأسيس مدرسة جديدة في المسرح المصري تستطيع أن تفخر وأنت تقول بأنك خريج مدرسة خالد جلال.

وأخيرا شكرا للشاعر الكبير نجيب سرور مؤلف هذه الملحة التاريخية العظيمة، كما اتوجه بالشكر الجزيل والعرفان الكبير لكل من يمنح قريتي بهوت لقب بلد الشجعان والجدعان، فهي حقا بلد الأبطال، ولنترحم جميعا على كل شهيد ضحى بحياته ليبقى اسم مصر خالدا آمنا بين الأوطان وعبر كل الأزمان، وفي انتظار أن يكون هذا العرض على أرض بهوت في القريب العاجل إن شاء الله.