خط أحمر
الإثنين، 5 مايو 2025 07:52 صـ
خط أحمر

صوت ينور بالحقيقة

رئيس مجلس الإدارة محمد موسىنائب رئيس مجلس الإدرةأميرة عبيد

رئيس مجلس الإدارة محمد موسىنائب رئيس مجلس الإدرةأميرة عبيد

مقالات

محمد عبد اللطيف يكتب ..حكايات منسية ... كل هؤلاء الرجال من بلدتى

خط أحمر

فى أيامى البعيدة ،كنت أظن أن حدود بلدتى ،تبدأ وتنتهى عند الأمكنة التى كنت ألعب وألهو فى دروبها،وأزقتها الضيقة ،مروراً بالشارع الذى أقطعه يومياً، أثناء سيرى على الـ "كولة " وأنا فى طريقى الى كتاب الشيخ راوى بمندرة على أبو دياب، أول "درب الدار"، وهو درب ضيق يمتد بمنحنياته ، من الـ "كولة" الى "شق النصارى "،حيث بيوت الصاغة والجامع الكبير .

وقتها ، بالكاد كنت أعرف أسماء أقاربى أو بعض الناس من بقية العائلات الأخرى، لكننى لا أعرف كينونة أى منهم، أو ماذا يفعلون ،فقط أعرف أن السوق يأتى يوم الاثنين، ومعرفتى به ليست من باب ادراك الأشياء، انما لأننى سأحصل فى هذا اليوم من والدى، مثل بقية الأطفال، على "التسويقة "، يعنى المصروف ،كى اشترى حلاوة شعر وطعمية من أبو الروس،وكنا كأطفال نحصل عليها كل أسبوع، والتسويقة عبارة عن ملاليم قليلة "تعريفة أو قرش أو تُمن ، أو ستين فضة تساوى" قرش ونصف " وكلما يزداد عمر الطفل، يزداد المصروف حسب الحالة الاقتصادية والاجتماعية لكل أسرة.

بينما كنت أودع سنوات الطفولة وأعانق مرحلة الصبا،عرفت أن بلدتى "الوقف" ليست هى الأمكنة التى كانت براحاً لى ولأقرانى، والتى تبدأ من الدروب والحقول وحتى الجبل، حيث الجبانة، ومقامات الدواوى والنجاجرة وحصر الحارث ، التى تتدحرج عليها النسوة لفك الأعمال أو للحمل ، وكذلك أعمدة كهرباءالضغط العالى فى المدى البعيد، وكان الوصول اليها أيام العيد مغامرة، تضيف للشباب بطولة يتباهون بها، فهذه الأعمدة أحيطت بالغموض والكثير من القصص،أنها تصعق من يقترب منها وأن الطريق اليها مفروش بالألغام، وغير ذلك من أساليب التخويف.

وقتها كنت أرى رموز البلدة وأنا فى الطريق الى الكُتاب ذهاباً وإياباً، وبعد مرور السنوات ، أيقنت أن الحقيقة أكبر من تصورات ذهنى ، كما أننى أدركت أن منطقة الدندراوية هى جزء من البلدة وليست كل البلدة،وأن المكون الجغرافى والمجتمعى لقريتى ،لا يبدأ ولا ينتهى ،عند براحى، فالقرية تتكون من عائلات أخرى كبيرة، البهايجة والسنابسة والمداكير وآل عزام والهداورة والعمارنة والعمارات والحمدات والجعافرة والحسيبات، جميعها يشكل نسيج المجتمع الذى نشأت فيه، كما عرفت أن هناك زعامات ورموز من تلك العائلات ،رجال عظام أثروا تأثيراً ايجابياً فى مسيرة وتاريخ بلدتنا.

عندما عرفت وأدركت ... تبدلت نظرتى الضيقة ، وحل محلها نظرة أخرى أكثر اتساعاً، نظرة تستوعب حجم الصورة ... حجم هؤلاء الرجال العظام ... هؤلاء الذين صاغوا ميثاق التعايش الايجابى ووأد حماقة التنافر والبغضاء فى بلدتى .... هؤلاء الذين حددوا معالم عصرهم ،فصار كل منهم رواية ملهمة .

بدأت أستوعب الأشياء والأحداث من حولى ، فأدركت أن التفاعل الشعبى مع حرب أكتوبر 1973، لم يكن عند طاحونة الدندراوية أو على الـ "كولة " وحدهما ، بل يشمل القرية على اتساعها، كل العائلات متشوقة للنصر ، كل العائلات لديها أبناء يحاربون فى معركة الثأر والكرامة ، كل الناس تلتف حول قضية الوطن ،وتتفاعل مع أحداثه الكبرى بصورة تلقائية ، كل العائلات كانوا يتلقون نبأ استشهاد أى أحد من أبناء البلدة بالفخر ، كانوا يتباهون فى جلساتهم بأن بلدتهم قدمت أنبل أبناءها فداءاً للوطن، وهؤلاء كثر ، منهم الشهيد عبد الحميد الخواجة ، وربما لا تعرف الأجيال الحالية عنه شئ سوى أن الشارع الرئيسى فى الدندراوية يحمل اسمه، ،والشهيد ابن أبو حمودة وابن حنا الاصلاحى ،وسأروى قصة هؤلاء الأبطال فى سياق تلك الحلقات.

أثناء حرب العاشر من رمضان كان رواد طاحونة البهايجة، يتلقون ذاد المعرفة من الشيخ حسين الهبش، الذى يقطن بجوار الطاحونة، وكان ذو مكانة مرموقة فهو ينتمى الى جيل الأوائل من أهل العلم ،حيث كانت جلسته اليومية أمام منزله ، وبصحبته المصحف أو أحد كتب المعرفة، وكذلك طاحونة العجوز فى "شق" المداكير، ومكانها بداية الـ "موردة " وهى طريق يشق الزراعات ويؤدى الى نهر النيل، يمر به السقائين لجلب المياه العذبة بالـ "قربة" وتسير فيه النسوة والفتيات وعلى رؤوسهن الـ "بلاليص"، والرجال والشباب يجلبون المياه بالـ "علاوى" على الحمير،وفى نفس الوقت كان النيل مصيفاً للصبية والشباب، يذهبون اليه بغرض السباحة والمسابقات، وكثيراً ما كانت تحدث حالات غرق لبعض الشباب سواء فى موردة المداكير أو موردة الجرف.

ما كان يجرى فى طاحونة الدندراوية ،لا يختلف بأى حال من الأحوال عن الذى يحدث فى طاحونة البهايجة وطاحونة المداكير، الحكايات هى،هى، البوح هو،هو ، المشكلات ذاتها ،والواقع نفسه بكل تعقيداته وتفاصيله .

كما كانت أكبر تجمعات أهالى البلدة، فى "شق" الهداورة، واكتسب المكان اسم "السويقة" حيث يرتاده باعة الاحتياجات اليومية، من الفاكهة والخضروات "الفجل الخس الجرجير البامية ، ويطلق عليها الـ "ويكة" والملوخية "، فضلاً عن كثرة المخانات "المقاه الصغيرة"، كما يوجد على طرفى السويقة مجلسين للوجهاء من كبار البلدة ،احدهما أمام منزل الشيخ محمد اسماعيل هدوار، والثاني أمام منزل الشيخ ابراهيم محمد حسن،وشهدت هذه المجالس ،انهاء الكثير من المنازعات، سواء بين العائلات المتنوعة قبلياً، أو داخل العائلة الواحدة ،وأيضاً توجد تجمعات أخرى فى رهبة البهايجة والحمدات، بالضبط مثل تجمعات الـ "كولة"، والأهم من هذا وذاك،أن كل الأمكنة ، تدور فيها أحاديث متنوعة وحكايات مشحونة ،تارة باستعراض الجزور والتباهى بالنسب ،وتارة أخرى مصحوبة بالنميمة، وجميعها من الأمور العادية فى الريف المصرى.

كان لافتاً لنظرى ومثيراً لشعفى ، بحكم الاقتراب ، تنوع جلسات الأهالى على الـ "كولة"، توجد جلسة لنخبة السياسة ، يفترشون الحصيرة أمام قهوة محمد أحمد ، وهذه الجلسة كانت تضم عبدالحميد على اسماعيل، وحسن معتوق والحاج على زيدان ،والشيخ أحمد الصاوى قبل أن ينتهى به المقام فى القاهرة ،وكان الصاوى أحد العلامات البارزة فى علوم اللغة والشعر، وآخرين، وجلسة أخرى تضم كبار المزارعين أمام دكان "اللبنى" ،ويجلس فى صدارتها الشيخ قاسم السباعى والحاج مخمود حسن ،ومجلس الشيخ على جودة أمام بيت الحاج على ابراهيم، ويضم الشيخ محمد حسين الحوارم والشيخ محمد اسماعيل عقارب ومعهم عدد من الوجهاء وذوى المكانة المرموقة، وكان يتخلل مجلسهم دعاباتهم الحميمية المتبادلة أثناء لعب الطاولة ،هروباً من الملل وتجنباً لأحاديث النميمة ، ثم مجلس الشيخ قوطة على ديوان الحاج محمد أبو الشيخ على ، وجلسة أخرى قريبة من تلك المجالس، أمام مندرة الديابة وبيت الشيخ أحمد، وهو أشهر مكان للعبة السيجة ، وأبرز رواده اسماعيل الديب ، عبداللطيف أبو رجب وأبو المجد أبو عمرة وهواة اللعبة الذين يلتفون حول الحلقة ، لتشجيع لاعب ضد الآخر، وكانت كل مشاجراتهم مزاحاً يحفز على الضحك ،خاصة فى شهر رمضان وتبدأ نصبة السيجة بعد صلاة العصر حتى قبيل آذان المغرب .

كان مجلس الشيخ على جودة من الأمكنة المحاطة بالهيبة والوقار من الجالسين أوالمارين ذهاباً واياباً ، فكان للرجل حضوره الطاغي سواء كان جالساً أو سائراً على قدميه.

هذا الرجل الأسطورى،عرفت وسمعت عنه منذ وقت مبكر، بعد أن تردد اسمه أمامى كثيراً، وقت أن كنت محجوزاً بمستشفى حميات دشنا ،كان عمرى وقتها سبع سنوات، حين أصبت بالحمى التى أفقدتنى القدرة على المشى ، وذات يوم جرت مشادة كلامية بين والدى والطبيب المعالج ، اسمه سمير الياس ميخائيل ،والدى كان يريد اخراجى من المستشفى ،والسفر بى الى القاهرة من دون اجراءات خروج، والطبيب يرفض لعلمه بالمخاطر الناتجة عن خروجى ، وهى المخاطرالتى قد تؤدى لموتى قبل الوصول بى الى محطة القطار ، الأب يتلهف على علاج ابنه بأى وسيلة، والطبيب يؤدى رسالته الانسانية ويتحمل تداعياتها .

انتهت المشادة الكلامية بمشاجرة مع الطبيب، ووصل الأمر الى مركز شرطة دشنا.

فشلت محاولات عم قاسم أبو حسنين لانهاء المشكلة، وهو قريب لنا ،كان يعمل، وقتها ، بمحطة سكة حديد دشنا ،ويقيم بأسرته فى أحد المنازل خلف مستشفى الحميات بالعزازية، وكانت زوجته "أم مصطفى " تأتى كل يوم للاطمئنان علىَ وقضاء الوقت مع أمى المرافقة لى .

فى نفس يوم الواقعة، علم عم حسن الدنقى " وهو ابن خالة والدى ، وكان يعمل فى مكتب المساحة بمحكمة دشنا ، وبعد عودته الى البلدة ، روى القصة لعمى "أحمد السلعى "أكبر أشقاء والدى،وكان تاجراً للمحاصيل الزراعية، فذهب عمى الى الشيخ على جودة وأخبره بما حدث، وعلى الفور توجه الشيخ على الى دشنا ليلا ومعه الشيخ محمد اسماعيل عقارب وعمى، زارونى بالمستشفى ، ثم قصدوا مكتب مأمور المركز، الذى استقبل القادم بالحفاوة التى تليق بمكانته ، باعتباره أهم وأشهر وجهاء وكبار الدائرة بكل قراها المتناثرة شرق وغرب النيل ، فقدومه يعنى أن حدثاً كبيراً جعله يذهب الى ديوان المركز فى وقت متأخر من الليل،وبعد مناقشات ، عرفوا من المأمور أن المحضر سيذهب الى النيابة صباحاً بتهمة الاعتداء على طبيب أثناء تأدية عمله، بصورة أو أخرى، علم الطبيب أن الشيخ على جودة جاء المستشفى ثم ذهب الى المركز، فتوجه الطبيب الى المركز,قال للمأمور : علمت أن والد المريض قريب الشيخ على جودة بتاع الغرب، وأنه جاء بنفسه عشان الموضوع .. ده صحيح ؟. قال المأمور : نعم صحيح ، رد الطبيب :أنا متنازل عن شكواى. الحلقة القادمة .... الشيخ على جودة ... أسطورة من الزمن الجميل

محمد عبد اللطيف حكايات منسية هؤلاء الرجال بلدتى
قضية رأي عامswifty
بنك مصر
بنك القاهرة