مقالات

محمد عبد اللطيف يكتب حكايات منسية ...الطاحونة فى حرب أكتوبر

خط أحمر

الطاحونة لم تكن ،مجرد مكان أو مزار، مثل بقية الأمكنة التى تترك فى النفوس أثراً وتلهب فى الأذهان الذكريات، لكنها تفوق تلك النظرة السطحية الضيقة، فهى ان شئنا الدقة ، نموزج يحاكى الحياة المصرية بكل تفاصيلها، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لأن ما يحدث فى المدن والقرى والنجوع والكفور، يشكل صورة مصر العميقة وما يحدث فى الطاحونة يشكل واقعها ،فهى مركز لمعرفة الأسرار وبراحاً لتداولها، فروادها سواء من أبناء القرية أو من خارجها ، كانوا يتغلبون على ملل الوقت الطويل بسرد الحكايات والبوح بالأسرار، نعم ...كل منهم يروى قصته وفق هواه، حيث لا تخلو من البطولات أو التباهى بسمو المكانة وغير ذلك من التفاصيل التى يتم تداولها فى المجتمعات المنغلقة والمعزولة والتى ينكب قاطنوها على ذواتهم .

روايات البطولات فى بلادنا وان كانت تحفز على الاستماع لها والاستمتاع بها، الا أنها كانت تغرس فى النفوس موروث الغضب ،عبر التباهى بانتصار الألسنة والردود التى تثير الفتنة وتحرض على الشجار واستدعاء ما كان ،لتبدأ رحلة أخرى، لا يدرك أطرافها ما سوف يكون ، لكن تبددت تلك البطولات التى تروى الرزائل لتحل محلها بطولات أخرى وجدت مكانها فى دفتر الفضائل، وهى البطولات التى صنعت تاريخ مصر .

فى العاشر من رمضان الموافق السادس من أكتوبر 1973 ، كان شهر رمضان له مذاق مختلف، ففى ذلك اليوم أخرجونا من مدرسة الناصرية الابتدائية الساعة الثانية ظهراً، بعد أن أرسلت نقطة الشرطة اشارة للنظار باغلاق المدارس، وصلت الاشارة عبر خفراء النقطة، وكانت الدراسة فترتين " صباحية ومسائية "،خرجنا نهلل فرحين بالانصراف وأننا فى أجازة مفتوحة ، صغاراً كنا لا نعرف شيئاً عن مغزى الاشارة الواردة الى النظار، كنا لا نعرف أنها قرارات عليا تهدف تأمين التلاميذ من غارات محتملة، مثل التى أغار بها العدو الاسرائيلى على تلاميذ مدرسة بحر البقر فى الشرقية، أو التى استهدفت خزان نجع حمادى القريب من بلدتنا ويطلق عليه "خزان أبو حمار " أثناء حرب الاستنزاف أعقاب نكسة 5 يونية 1967 .

فى الطريق الى بيت أسرتى فى "كرم هنب"، مررت أنا وأقرانى أمام الطاحونة، وجدت الناس يلتفون بكثافة حول مذياع الأزهرى، وقفت أنا وصديق طفولتى وشريك أحلام صباي وشبابى ،ورفيق أجمل سنوات عمرى كله ،صبرى حسن سليم، للفرجة على تهليل الناس وفرحتهم بسماع البيانات الصادرة عن القيادة العامة للقوات المسلحة، حتى جاء آذان المغرب، فانصرفنا نغنى كعادتنا، واتفقنا على اللقاء بعد الافطار ، لنعرف سوياً من الراديو، ما هى حكاية العبور، كان شغفنا بها نوعاً من حب الاستطلاع لمعرفة أسباب فرحة الناس،من دون موروث معرفى عنها ، فقط كنا نعرف أن جيشنا عبر قناة السويس وطائراتنا فى كل طلعة تسقط العشرات من طائرات العدو وأن جنوداً من بلدتنا يحاربون العدو الاسرائيلى .

فى تلك الأيام كان كل واحد من أهل بلدتى مزهوا ممتلئا بالفخر، لأن جيشه حطم مقولة أسطورة الجيش الذى لا يقهر.

لا زلت أذكر تلك الأيام ، بقدر الحنين لأحلى سنوات العمر، عشت مع بسطاء، أحلامهم بسيطة مثلهم ، رأيتهم فى أماكن التجمعات بجوار محال البقالة، أو الغرز الصغيرة، أو الوقوف بجوار أقرب مذياع، ينصتون بكل جوارحهم للأغانى الوطنية ،التى تتخلل البيانات الصادرة من القيادة العامة للقوات المسلحة، يهتفون "الله أكبر" عند سماع نبأ عن إسقاط طائرات للعدو، أو تقدم قواتنا المسلحة فى عمق سيناء، أو نجاحها فى ضرب المواقع الحصينة للعدو.

هؤلاء البسطاء، لم يكن بينهم خبير فى الشأن الاستراتيجى أو متخصص فى تكتيكات الحرب، ولا أبالغ ان قلت : ليس لديهم أدنى دراية بمخططات أجهزة الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية، وأنواع التسليح أو خطة الخداع الاستراتيجى، أو مواقف قطبى العالم وقتها "الاتحاد السوفيى والولايات المتحدة الأمريكية" ، فقط هم يريدون الثأر وتحرير الأرض مهما كان الثمن.

أمام الطاحونة كان يوجد بيت مبنى بالطين، شأن معظم البيوت على أطراف القرية ، يقطن به على حسن مكى ،شيخ النجارين المهرة وأميرهم المتوج على عرش تصنيع وتشكيل الخشب، فقد كان موهوباً، بل بلغت شهرته حداً جعل بقية النجارين يتباهون فى اطار تسويق أنفسهم، بأنهم كانوا صبيان المعلم على أبو حسن ، الرجل لم يكن موهوباً وبارعاً ،فقط ،فى صنعته، بل كان مثقفاً يتحدث الفصحى بطلاقة ويرتجل الشعر فى أحاديثه، ويتبارى فى الحكمة مع أربابها من المثقفين فى بلدتنا،غير مرة كنت أنصت له وأنا أقف على أطراف جلسته، بجوار ديوان الخلايفة على الـ "كولة" ،وقتها كان يتحدث مع عبدالرحمن حسين الحوارم ويعقوب حسين البساس ،عن سيرة أبو ليلى المهلهل " الزير سالم"وهى ملحمة حرب البسوس التى استمرت 40 عاماً بين أبناء العمومة والأصهار بسبب ناقة قتلها الملك "كليب" ، كان يردد أبياتاً من الشعر الجاهلى المدون فى اللحمة التاريخية .

من بين أبناء على حسن، الشيخ اسماعيل الأزهرى،وكان يدرس بجامعة الأزهر، كان الأزهرى يجلس بجوار مذياع أمام الطاحونة من صلاة العصر وحتى قبيل آذان المغرب طيلة أيام الحرب،ولا أعرف عما اذا كان المذياع خاص به أو أنه ملك لغيره،لكن جلسته كانت تضم ، عبداللطيف أبو حسنين الحوارم ـ رجلاً وقوراً من أهل المعرفة والحكمة ـ ومحمد الدكر أسطى الطاحونة وغيرهم من رواد الطاحونة .

كان الأزهرى مفوهاً ، يقوم بالتعليق على البيانات التى يبثها المذياع، والناس يخرجون من الطاحونة أفواجاً، يستفسرون منه ويستمعون لتحليلاته عن الأجواء والتحركات الدولية، كان شغفهم مشحوناً بعواطف جياشة ،فتساؤلاتهم تعبر عن مكنون تلك العاطفة، مثل "الولاد عملوا ايه انهاردة" ؟... وقعنا كام طيارة ؟ ، لاحظ ، المعنى ودلالاته من التساؤل ، وقعنا كام طيارة والولاد علوا ايه انهاردة ؟.. كانوا يتلقفون الاجابة بتفاؤل ، وفى المقابل كانت النسوة فى البيوت ينتظرن أزواجهن، ليسمعن حكايات البطولات، ويسألن عن أخبار ابن فلان الذى أمضى ست سنوات على الجبهة.. وفى الصباح تروى كل منهن للأخرى، ما تسمعه من زوجها عن الملائكة التى تحارب، وعن عيون المياه التى تتفجر من قلب الصخور ، ليرتوى جنودنا من المياه العذبة الطاهرة، حكايات اختلطت فيها الأمنيات الدفينة بالأساطير؟ .... الحلقة القادمة ..راديو" اللبنى "فى حرب أكتوبر.

محمد عبد اللطيف حكايات منسية الطاحونة حرب أكتوبر
قضية رأي عامswifty
بنك مصر
بنك القاهرة